أنواع العبودية
ما هي العبودية؟
"العبد" هو الإنسان المملوك لمولاه، الذي لا يملك لنفسه شيئاً، والذي تكون إرادته تابعةً لإرادة مالكه، فلا يطلب شيئاً إلّا تبعاً لطلبه ومشيئته، ولا يعصي له أمراً ولا يتمرّد على حكمه.
و"العبوديّة" هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، والتسليم له، وامتثال الطاعة والانقياد له، بلا قيدٍ ولا شرط. والمعبود الوحيد الّذي له حقّ العبادة على الآخرين, هو الّذي بذل منتهى الإنعام والإكرام, وليس ذلك سوى الله سبحانه.
فمعنى أن أكون عبداً, أن لا أقوم بأيّ فعل حتّى أعلم حكم الله فيه فأعمل وفقه، وأن لا تكون لي إرادة في مقابل إرادة الخالق، وأن لا أريد إلّا ما أراده، ولا أرى لنفسي حولاً ولا قوّةً على شيءٍ إلّا بتوفيقه تعالى ومنّه.
العبودية بالمعنى الذي ذكرناه حقيقة جارية على كل مخلوقات الله. فالكون وما فيه، من عوالم المادة والأحياء وسائر المخلوقات يتّجه بتكوينه وإبداعه اتجاهاً مرتبطاً بإرادة الله ومشيئته، بصورة تنطق بالسجود وبالتسليم والخضوع الكامل والمطلق لله سبحانه. والإنسان بدوره لا يشذّ عن هذه القاعدة. وتنقسم هذه العبودية والخضوع لله سبحانه وتعالى بالنسبة للفرد الإنساني المتّصف بالاختيار، والإرادة، والمتعرّض للجزاء والمسوولية, إلى قسمين:
1- العبودية التكوينية:
إن من يطّلع على تصوير القرآن لسجود الكون والعوالم والمخلوقات والأشياء، يدرك أن الإنسان بكامل تكوينه جزء من هذا العالم، وهو مرغم على الخضوع والسجود، أو على العبودية بمعناها التكويني، وعدم القدرة على الشذوذ، أو التمرّد على إرادة الله التكوينية التي استوعبت الوجود بأسره.
فهو مرغم على الحياة والموت، والنمو والولادة.. إلخ وهو لا يستطيع أن يخالف قوانين الطبيعة، كقوانين الفيزياء، والكيمياء، والأحياء، التي تجري عليه، وتنظم وجوده، شأنه في ذلك شأن سائر المخلوقات والكائنات التي لا إرادة لها، كما أنه لا يستطيع أن يقوم بخلق نفسه وتكوينها، لذا كان بهذا العجز وبتلك الحاجة إلى خالقه عبداً مملوكاً، وخاضعاً مستسلماً لإرادة الله، استسلاماً تكوينياً جبرياً.
ولكي يعي الإنسان هذه الحقيقة استمر القرآن في تنبيهه والتأكيد له على عبوديته، واستسلامه لخالق الوجود، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ . ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَوُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ . ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ .
فالقرآن يوكّد لنا في هذه الآيات أن كل الناس هم عباد الله من حيث علاقتهم التكوينية به، سواء منهم المومن المطيع، عن وعي وإرادة واختيار لأوامر الله ونواهيه، أو الكافر المتمرّد الذي يأبى الطاعة والالتزام بأوامر الله ونواهيه. فالإنسان يدور في فلك العبودية مرغماً، لأنه مملوك وتابع لله وخاضع لمشيئته، لذا فالقرآن سمّى الضالين والمنحرفين عباداً كما سمّى كل من في السموات والأرض من ملائكة وناس عباداً، بغضّ النظر عن ممارستهم للعبادة أو رفضهم لها. وهذا اللون من العبودية والاستسلام والخضوع، نسمّيه عبودية تكوينية أو خضوعاً تكوينياً جبرياً.
2- العبودية الاختيارية:
يختلف الإنسان عن غيره من الكائنات والمخلوقات بكونه كائناً عاقلاً مدركاً يملك إرادة وقدرة على الاختيار بما أفاض الله عليه من قوة عقلية عظيمة، ووهبه من حق في اختيار السلوك والأعمال، فهو يستطيع بذلك الاستعداد أن يفعل الخير، أو يختار طريق الشر، وأن يتوجّه إلى الله ويرتبط به كما يستطيع أن يتمرّد على أوامر الله وشريعته، فيختار طريق الانحراف والعصيان.
وهو بعلاقته هذه مع الله يختلف تماماً عن علاقته التكوينية التي تحدّثنا عنها، ففي العلاقة التكوينية كان مجبراً مسيّراً، لا يملك إرادة ولا اختياراً.
أما في العلاقة الثانية فهو كائنٌ مريدٌ، مختار، يستطيع أن يختار الطريق الرباني الموصل إلى مرضاة الله - أي يختار طريق العبودية لله - كما يستطيع أن يختار طريق الضلال الذي هو طريق العبودية والخضوع لغير الله، فيعبد ذاته أو شهواته فيخضع
لها، أو يتّخذ طواغيت البشر المستبدّين آلهةً يقدّسهم، ويأتمر بأوامرهم ويلتزم بإرادتهم ويخضع نفسه لهم, ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ ، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ . وهذه العبودية التي يختارها الإنسان سواء العبودية لله أو لغير الله، هي عبودية اختيارية، اختارها الإنسان بمحض إرادته، لذا كان مسوولاً عنها ومحاسباً عليها يوم الجزاء.
المصدر: کتاب روح العباده
الذنوب الكبيرة (1)
الذنوب الكبيرة (2)
الذنوب الكبيرة (3)