المثل الحادي عشر: إنفاق الكفار
يقول الله في الآية 117 من سورة آل عمران:
( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيا كَمَثلِ رِيْح فِيْهَا صِرّ أصَابَتْ حَرْث قَوْم ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ فَأهْلكَتْهُ ومَا ظَلَمَهُمُ اللهُ ولَكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .
تصوير البحث
في هذه الآية يمثّل القرآن بذل الكفار بزراعة كافر في أرض خصبة، فهو ينثر فيها البذر، إلاَّ أن مجيء ريح بارد وجاف يجفّف ما زرعه وأنبته هذا الكافر في هذه الأرض.
الشرح والتفسير
( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعتقد بعض المفسرين أنّ كلمة النية أو الدافع مقدرة هنا، وهي توضّح هذا الجزء من الآية. وبهذا التقدير يصبح معنى الآية كالتالي: أنّ نية هكذا إنفاق ودافعه كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم، فكما أنَّ هذا الريح يدمر الحرث، كذلك النية هذه فانّها تدّمر هذا الانفاق.
( كَمَثَلِ رِيْح فِيْهَا صِرٌّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْم ظَلَمُوا أنْفُسَهُم فأهْلَكَتْهُ ) إنَّ مفردة الصر بالعربية
[ 134 ]
تعني ريحاً شديد البرد، أو ريحاً شديد الصوت.(1)
على أي حال، المراد من هذه الكلمة هو الريح الشديد الذي يحرق حتى بعض الغابات الكبرى أحياناً.
وسبب هذا الحريق - كما نسمع من المختصين - هو الصواعق والرعد والبرق، وقد يكون هناك إعصار شديد تحتك بسببه بعض الاشجار اليابسة - التي تدّخر في نفسها طاقة - فتتولد قدحة تشعل النار، فيحصل الحريق. وعلى هذا، فإنَّ مثل انفاق الكفّار كمثل المزرعة التي تواجه ريحاً شديدة تُضرم النار فيها.
( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ ولكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) وذلك لأنّ ما يترتب على فعلهم لم يكن ظلماً من الله بل كان ذلك كله بسبب سوء نواياهم وعدم صدقها.
إنَّ المزارع الذي يتعمّد الزرع في أراض تقع في مسير الرياح الشديدة والباردة، إذا تلفت زراعته إثر هبوب الرياح فذلك ظلم أورده بنفسه على نفسه.
خطابات الآية
1 - المراد من الإنفاق في آية المثل
أي نوع من الانفاق شُبِّه بالريح الصر في الآية الشريفة؟ إنّ في ذلك احتمالات ثلاثة نشير إليها هنا.
الف - المراد منه الانفاق الذي يُصرف في غير سبيل الله، مثل الانفاق والبذل الذي كان يصدر من أبي سفيان الكافر والمنافق - فهو لم يُسلم قلبياً وضلّ كافراً إلى آخر عمره - في سبيل عظمة الأصنام ولأجل إسقاط الإسلام.
إنَّ القرآن المجيد يقول: إنّ إنفاقاً من هذا القبيل مثل الأرض التي تعدُّ للزراعة، ودوافع هؤلاء المنفقين - وهي الشرك وعبادة الأصنام - مثل الريح الصر.
--------------------------------------------------------------------------------
1. الصر من نفس المادة وتعني الضجة، ومفردة (الصُرّة) التي من نفس المادة كذلك تعني الكيس الذي أغلقت فوهته بشدة. وعلى هذا، فإنَّ الشدة متضمنة في جميع معاني هذه المادة ومشتقاتها، الريح الشديد والصوت الشديد والكيس الذي أغلقت فوهته بشدة.
[ 135 ]
باء - المراد من ذلك هو الانفاق والبذل الذي يصدر من المسلمين المترائين لأجل بناء المساجد والحسينيات والمستشفيات والمستوصفات والجسور والطرق وما شابه ذلك، فهي إنفاقات ذات دوافع غير إلهية، وتنمُّ عن دوافع مثل المباهاة وجلب رضاء الناس لأجل الفائدة الأكبر في المستقبل. إنَّ إنفاق هؤلاء مثل الأرض الزراعية الخصبة، ونية المنفقين غير الخالصة مثل الريح الصر.
جيم - المراد منه هو الانفاق الذي يقترن مع المنِّ والإيذاء، فهو في الظاهر إنفاق وفي الواقع إذهاب لماء وجه الآخرين وسلب اعتبارهم. فالإنفاق آنذاك كالأرض الزراعية، أما المن والأذى فبمثابة الريح الصر فأنها تُبطل الانفاق، كما أن لها أضراراً دنيوية، وذلك لأنّه فقد ماله اضافة إلى انّه ارتكب ذنباً عليه عقاب.(1)
2 - الإنتقام من كافر النعمة
يستفاد من الآية وآيات اخرى من القرآن المجيد أن الله ينتقم في كثير من الحالات من الذين يكفرون بنعمه ويطغون، فيجعل النعم وسيلة لعذابهم ويبدّلها إلى نِقم (أي الموت في قلب الحياة) .
كمثال على ذلك، الله أباد قوم نوح بواسطة المطر والطوفان، مع أنّ المطر قطرات تمنح الحياة لمن تصله، وهو من أكبر نعم الله تعالى على هذا القوم.
إنّ الغيث إذا لم ينزل ينتهي كل شيء على وجه الأرض، فهو نعمة لكنه تبدّل إلى مصيبة على قوم نوح!
تحدّثت سورة سبأ عن قوم سبأ، والحكاية واقع وعبرة في نفس الوقت. إنّ هذا البلد يقع في مسير المياه الحاصلة من المطر، ولأجل الحدّ من أضرار الأمطار الغزيرة بنى هذا القوم سداً ترابياً لجمع المياه الزائدة والافادة منها عند الحاجة، وشقوا قنوات وسواقي من هذا السدّ إلى
--------------------------------------------------------------------------------
1. رغم أنَّ الاحتمالات الثلاثة غير متما نعة مع مضمون الآية الشريفة، إلاّ أنّه باعتبار الآية السابقة لها فإنَّ الأول هو الأصح، وذلك لأن الآية السابقة (116 من سورة آل عمران) تصرّح بموضوعها، أي الكفّار.
[ 136 ]
أراضيهم، فأصبحت أراضيهم بذلك قطعة من الخضار لكثرة التشجير والمزارع والبساتين، وما كان الله يريد من هذا القوم إلاّ شكر الرب على نعمه الوافرة، كما يصرّح القرآن بذلك في الآية 15 من سورة سبأ: ( كُلوا مِنْ رِزْقِ ربِّكُمْ واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طيِّبةٌ وربٌّ غَفُورٌ )لكن باعتبار أنَّ الإنسان ينسى الله عندما يغرق في نعمه، فكذا قوم سبأ كانوا قد نسوا الله وأصابهم الغرور والطغيان وكفران النعمة، وهذه من صفات الإنسان إذا كان ضيق الصدر، حيث ينسى كل شيء عندما يبلغ مستوى الرخاء.
إنّ القرآن يصف العذاب والنقمة التي أصابتهم كالتالي: ( فَأَعْرَضُوا فأرْسَلْنَا عَلَيْهِم سَيْلَ العَرِم وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَتَيْهِم جَنَّتِيْنِ ذَوَاتَي أُكُل خَمْط وَأثْل وَشَيء مِنْ سِدْر قَليل ) . (1)
نعم; إنّ كفران النعمة هو الذي بدّل نعمة السد الترابي إلى نقمة وعذاب. وقد توفرت مقدمات العذاب، بعدما أوحى الله لفئران أن تثقب السدّ، فكان الماء يخرج من الثقوب شيئاً فشيئاً إلى أن توسعت الثقوب لتصل إلى مستوى استطاعت أن تدمّر السدّ، فتدفّق الماء بشدة ودمّر قصور القوم وبساتينهم وأنعامهم، وبدّل مزارعهم إلى أراض جرداء.
وفي النتيجة تبدّل هذا السدّ - إثر إعراضهم عن الله - إلى عذاب ليكون عبرة لمن بعدهم، ولكي لا يطغى الإنسان أمام الله.
النموذج الآخر، هو عذاب الله الذي نزل على قوم شعيب من خلال الصيحة (كما يعبر عنها القرآن في الآية 94 من سورة هود) أو الصاعقة، وهي من جهتين تعتبر عذاباً، الأولى: أنَّها تحرق كل ما تصطدم به. والثانية: أنّ أمواجها الصوتية تذهب بالسمع.
ويُذكر هنا أنَّ هذه الصاعقة كانت نعمة لهم; لأنها تسبب هطول الامطار، تلك النعمة التي يدين لها جميع الأحياء على الكرة الأرضية.
وحسب ما ذكر في الآية 16 من سورة هود، أنّ الاستئصال كان نتيجة طغيانهم وكفرانهم لنعم الله، وتبدّلت بذلك الأرض التي هي مهد الإنسان ومسكنه إلى وسيلة عذاب يتعذبون بها.
--------------------------------------------------------------------------------
1. سبأ: 16.
[ 137 ]
إنّ اهتزاز الأرض دمر جميع مدنهم، وقد أنزل الله وابلا من الأحجار عليهم بحيث لم يبق من آثارهم شيءٌ أبداً.
أشرنا سابقاً إلى أن الريح من نعم الله العظمى للمزارعين، كما أنَّه إذا لم يهب فانَّ عملية لقاح الاشجار سوف لا تتمُّ، كما أنَّ الهواء إذا لم يتغير فسوف يستهلك الاوكسجين فيه، وفي النهاية سوف لا تثمر الاشجار والنباتات من جراء ذلك.
3 - فلسفة الكوارث الطبيعية
منذ القدم كانت المسألة التالي ذكرها أحد مسائل بحث العدل الإلهي، وهي: إذا كان الله عادلا فما فلسفه الكوارث والحوادث المؤلمة من قبيل الأمراض والسيول والطوفانات والزلالزل والامطار الشديدة والاعصار المخيفة ؟
هل تتلاءم هذه الامور المؤلمة للإنسان أو المدمّرة له مع عدالة الله؟
لا نعرف التاريخ الدقيق لطرح هذه الشبهة، وقد يرجع تاريخها إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح(عليه السلام). وقد دوِّنت في هذا المجال البحوث والكتب الكثيرة، وهممنا في كتاب (خمسين درساً عقائدياً) بالاجابة على هذه الشبهة.
وقد تصدَّى القرآن في بعض آياته للاجابة على هذه الشبهة، نشير إلى نماذج من تلك الآيات:
1- تعتبر بعض الآيات التنبّه واليقظة من أهداف هذه البلايا والكوارث، كما هو كذلك في الآية 41 من سورة الروم: ( ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيدِي النَّاسِ ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلوُا لَعلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .
على أساس هذه الآية، تعدُّ الكوارث لطفاًُ من الله للغافلين من الناس، فإنَّها قد تفيق الغافلين عن غفلتهم لعلهم يرجعون إلى الله، مثلما ابتلى الله الناس في زماننا هذا بمرض الايدز لكثرة فسادهم لعلهم بهذا الابتلاء يرجعون عن فسادهم وينتبهون إلى أنفسهم، أو مثلما يبتلي شعوب العالم حالياً بالحروب والاختلاف الطبقي الفاحش والانقلابات والسقوط وتدمّر الحضارات البشرية وذلك لتفشي أمراض مثل أكل الربا فيهم. فهذه الابتلاءات تحلُّّ بالناس
[ 138 ]
لعلّها تنبههم وترجعهم إلى الطريق الصواب وتفيقهم من غفلتهم هذه.
إذن، الابتلاءات هذه مواهب إلهية في الواقع.
ولأجل اتضاح هذه الفلسفة بشكل أفضل التفتوا إلى هذا المثال:
نشاهد في بعض الشوارع الطويلة والمستوية بعض العقبات والعكر تعَّمد إيجادها المعنيوّن. إذا ما سألنا عن سبب ذلك قالوا: إن شوراع من هذا القبيل قد تؤدي إلى غفوة السائق وغفلته الأمر الذي قد يودي، بحياته وحياة الآخرين، ولأجل الحيلولة دون غفوة السائق نتعمد إيجاد هذه العكر ليبقى السائق منتبهاً دائماً.
إنّ حياة الإنسان إذا خلت من هذه العقبات قد تؤدي إلى غفلة الإنسان وغفوته وسقوطه في الهاوية في نهاية الأمر، لكن وجود هذه العقبات تحول دون غفلته وتنجيه من السقوط رغم أنها تؤذيه ولا تريحه.
2 - الفلسفة الاخرى المستفادة من الآيات هي أنَّ بعض هذه البلاءات والحوادث نتيجة عمل الإنسان نفسه، وبتعبير آية المثل: أنَّ الإنسان يظلم نفسه وأنَّ الله لا يظلم أحداً.
على سبيل المثال، الأبوان اللذان لايكترثان بسوء أو حسن تربية الاطفال، ولا يهتمان بتعليمهم المسائل الدينية، ولا يرشدونهم إلى الاماكن الدينية مثل المساجد والحسينيات ولا يعوّدونهم على التردد على هذه الأماكن، فان النتيجة ستكون اطفالا غير مهذبين أو متعاطين للمخدرات، الأمر الذي يعود بأضراره لا على نفسيهما فحسب بل على جميع المجتمع، لكن يا ترى من كان السبّاق والناثر للبذرة الأولى لهذا الشذوذ وهذا الظلم؟ لا أحد غير الأبوين.
إعتبروا
قبل مدة جاء شخص محترم لمكتبنا لغرض دفع ما عليه من واجبات مالية، فقضى الموظفون حاجته وأدى ما عليه، ثم رحل.
بعد فترة من الزمن جاء نفس الشخص مع صديق له، وهو يحمل معه الكثير من الهمّ والغمّ، ورأيته يبكي، فسألته عن سبب بكائه؟ فأجابني: أنَّ إطفالي صادروا جميع ما جمعت من المال خلال السنوات الماضية من عمري، وقد طردوني من البيت، وأنا الآن أنام في كل ليلة في بيت
[ 139 ]
من بيوت المعارف. ثم أشار إلى صديقه وقال: إنّ الطريق الذي سلكه صديقي كان طريقاً صحيحاً، فهو سعى منذ البداية في تربية أولاده وتعاليمهم والاحكام الإسلامية وأرشدهم منذ الصغر إلى المساجد والحسينيات، وأولاده حالياً كالعصى بيد والديهم يحترمونهما ويؤدون واجباتهم تجاههما، إلاّ اني أخطأت منذ أن فكّرت في إرسالهم للخارج وتعليمهم العلوم من دون الاكتراث بما قد يسيء ذلك إلى تربيتهم. وحالياً عندما رجعوا إلينا وجدناهم لا يفكرون إلاّ بأنفسهم ومصالحهم المادية، فلا يهتمون بشيء غير المال ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) . (1)
إنّ لطف الله ورحمته على العباد مثل الغيث الذي يهطل على الأراضي، ففي بعضها تنبت الزهور والنباتات، وفي بعضها الآخر تنبت الأدغال، والاشكال ليس في المطر بل في ذات الأرض. كما أنه لا اشكال في أنوار الهداية الإلهيّة، بل الاشكال في قلوب الناس. وعلى هذا، فإنَّ الفلسفة الاخرى لهذه الابتلاءات هي أنَّها ردود فعل لأفعالنا نحن. بالطبع هناك فلسفات اخرى لهذه الظواهر، نحن نكتفي هنا بالموردين السابقين.
--------------------------------------------------------------------------------
1. جاءت آيات كثيرة بهذا المضمون، منها الآية 57 من سورة البقرة، والآية 117 من سورة آل عمران والآية 9 و 16 و 162 و 177 من سورة الاعراف، والآية 70 من سورة التوبة والآية 44 من سورة يونس.
[ 140 ]
[ 141 ]