تواضع العلامة الطباطبائي
بلغ العلامة الطباطبائي درجة عالية من التواضع والأخلاق ومراعاة الأدب والالتزام به، حتّى سأله أحد تلامذته ممّن رافقه أكثر من ثلاثة عقود أن يرأف بهم، لأن كلّ من يعاشره يحسّ في نفسه الصغر ويشعر بقلّة الأدب إزاء خلقه السامي المنيف وما ينطوي عليه سلوكه من تهذيب شديد واستقامة وظرافة، سواء كان مع تلاميذه أو مع الأسرة في أجواء البيت أو مع عامّة الناس.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، نحاول الوقوف على بعضها:
يقول تلميذه السيد محمّد حسين الطهراني: «كان هذا الرجل العظيم يتصرّف كأيّ طالب عادي، فقد كان يجلس على الأرض في ساحة المدرسة، ويأتي قبيل الغروب إلى المدرسة الفيضية، وعندما تقام صلاة الجماعة تراه يأتمّ كبقية الطلبة بآية الله محمّد تقي الخونساري.
لم يُر منذ ما يقارب الأربعين سنة متّكئاً في المجلس على الوسادة مستريحاً عليها، بل كان يتقدّم على الحائط لا يستند إليه، ويجلس بين يدي ضيفه الذي يدخل عليه، أدنى منه.
كنت تلميذه أذهب إلى بيته كثيراً، وقد حاولت أن أجلس بين يديه رعاية للأدب، بيد أنّي لم أفلح ولم أوفّق لذلك أبداً. عندما كنت أفعل ذلك، كان ينهض ويقول: معنى فعلك أنّه يجب عليّ أن أجلس عند الباب أو أخرج من الغرفة!».
أمضى هذا الحكيم المتألّه عمره في التدريس دون أن يقبل أن يرقى المنبر، بل كان يجلس إلى الأرض يتحلّق الطلاب من حوله، فيلقي الدرس وهو شبه مطرق من شدّة الحياء، والأكثر من ذلك كان يرفض أن يجلس أثناء إلقاء الدرس على سجّادة أو فراش خاصّ يميّز مجلسه عن بقيّة الحضور. وأروع ما كان يعلّل به رفضه للفراش الإضافى قوله لتلاميذه: لو صرتُ أعلى منكم بمقدار سمك السجّادة أو الفراش الإضافى لما استطعت أن أتحدّث!
ظلّ العلّامة يرفض بشدّة أن يسير وراءه التلاميذ والمويّدون والأصحاب، بل لم يكن يرضى ذلك حتى لأفراد أسرته، هذا نجله يذكر أنّه سار خلف والده يوماً من أيّامه الأخيرة في الحياة، وهو ذاهب إلى الحرم كي يحتاط لما قد يقع له وقد اشتدّ به مرض القلب والأعصاب، فما كان من السيد الطباطبائى إلّا أن التفت إليه سائلاً: إلى أين تريد؟ أجاب الابن: ألستَ ذاهباً إلى الحرم؟ قال السيّد: أجل. ردّ الابن: وأنا أريد الذهاب إلى الحرم أيضاً. ردّ الوالد: لم تعد صغيراً، اذهب إلى الحرم وحدك، وليس ثمّة ضرورة بأن ترافقني!
ظلّ يتبضّع احتياجاته للمنزل بنفسه، وقد سجّل بعضهم أنّه كان يراه يقف في الصفّ مع الناس بانتظار أن تحين فرصته ليستلم أرغفة الخبز.
ويروي تلميذه الطهراني صورة أخرى من تواضعه فيقول: «عندما كنت طالباً فى الحوزة بقم كنت كثير التردّد إلى منزل أستاذي العلّامة الطباطبائي، ومن الحسرات التي ظلّ يختزنها فوادي، حرماني من الاقتداء به في الصلاة، لأنه كان يمتنع عن أن يتقدّم على أحد. وفى شهر شعبان عام 1401 ه تشرّف بزيارة مشهد (الرضا عليه السلام) ثم ورد إلى منزلي، ولما حلّ وقت صلاة المغرب أعددت له ولرفيق كان بصحبته سجّادة الصلاة. وخرجت من الغرفة لكي يبدأ بالصلاة ثمّ أقتدي به حال انشغاله بالصلاة، إلّا أنّي مكثت خمس عشرة دقيقة أترقّب خارج الغرفة من دون أن يبدأ بالصلاة.
ثم ناداني مرافقه قائلًا: سيظلّ العلّامة الطباطبائي جالساً حتى تصلّي أنت. فقلت للعلّامة: أنا أريد الاقتداء بكم. فقال: أنا أريد الاقتداء بك. ثم أردف: تفضّل صلّ. فأجبته: منذ أربعين عاماً تحدوني الرغبة للصلاة مأموماً وراءكم. فتبسّم وقال: أضف سنة أخرى على الأربعين. ثم أضاف: تفضّل للصلاة، أنا أريد الاقتداء بك. فخجلتُ كثيراً وقلت له: إن كان هذا أمراً من جنابك فأنا مطيع لك. وأخيراً نزلتُ على رغبته، فتقدّمتُ للصلاة وصلّى العلّامة خلفي مأموماً. وهكذا، وبعد أربعين عاماً لم أحرم من الائتمام به فحسب، بل انتهى لأن أكون إماماً له.
ثمّ يستشهد السيد الطهرانى بهذا البيت من الشعر لصفي الدين الحلّي:
خُلُق يُخجل النسيم من اللطف وبأسٌ يذوب منه الجمادُ
جلّ معناك أن يحيط به الشعر ويحصي صفاته النقّادُ»
أمّا بشأن تواضعه العلمي، فقد أكّده غير واحد من تلامذته في حديثهم عن آدابه في التعامل معهم، ويمكن عدّ ذلك أهم مزيّة تعلّمها منه تلامذته في بيئة تزدحم بالادّعاءات والتفاخر والتعالم، فكثيراً ما نسمع أو نقرأ أنّ هذا المطلب لم يسبقني به أحد، وهذا ما أفاضه الله عليّ، بينما اتّسمت شخصيّة العلّامة الطباطبائي بأدب مختلف في البحث العلمى.
يكتب تلميذه الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي: «طيلة السنوات الثلاثين التي أفتخر بحضوري فيها لديه لم أسمع منه كلمة «أنا». وعوضاً عن ذلك طالما سمعت منه عبارة «لا أعلم» عند جوابه عن الأسئلة، هذه العبارة التى يعتبرها أدعياء العلم عاراً، غير أنّ هذا البحر المتلاطم من العلم والحكمة يقولها من فرط تواضعه بسهولة، ثم بعد ذلك يجيبه على السوال مبتدئاً بقوله: يحتمل أو في نظري».
أمّا تلميذه الآخر الشيخ إبراهيم الأميني فيكتب: «اشتركت زهاء ثلاثين سنة في دروسه، مضافاً إلى حضوري ليالي الخميس والجمعة أيضاً في درسه الخاصّ، لا أتذكّر طوال هذه المدّة أنه صار عصبياً أو صدر من لسانه قول شديد أو توهين لأحد من تلامذته، كان متواضعاً جدّاً، لم نرَ منه تعريفاً وتمجيداً بنفسه، كما لم يبخل بالتعليم والتربية على أحد، وعادة ما يوضّح المطالب العالية وبعض ابتكاراته ببيان ميسّر مفهوم للمخاطبين، من دون أن يشير إلى أنّ هذا المطلب من ابتكاراتي وأنّه مطلب مهمّ.
وكان يحرص على إشاعة العلم، فلم يترك سوالًا لأحد بلا جواب، ويأتي جوابه بمستوى فهم السائل، ولا يلجأ لاستخدام العبارات المعقّدة، ويجيب بعبارات مختصرة.
لا يعبأ بكثرة أو قلّة حضور طلّابه، فحتى لو اقتصر الحضور على اثنين أو ثلاثة لا يبخل بالدرس».
وبلغ من تواضعه العلمي أن يعبّر عن تلامذته بـ «رفاقي» ولا يحبّذ أن يسمّيهم تلامذته، كما تقول ابنته: «إنّه كان خارج المنزل في أحد الأيّام فجاء أحد تلامذته لزيارته. فقلت له حين عاد إلى المنزل: جاء أحد تلامذتك ولم يجدك. فأجاب: قولي أحد رفاقي، هولاء رفاقي».
المصدر: موقع الوارثون