قبسات من افکار العلامة الطباطبائي (2)
حرية العقيدة
إنّ الإسلام لا يبيح كما يظن البعض حرية العقيدة بشكل مطلق، بحيث يكون الإنسان حراً حتى في الشرك وعبادة الأصنام. فمن غير المعقول أن يمنح الإسلام الذي يقيم بنيانه على التوحيد ونفي الشرك، ما يطال قاعدته التوحيدية، لما ينطوي عليه ذلك من تناقض واضح.
لنتساءل: هل يمكن أن تمنح المجتمعات المعاصرة إنسانها حرية تخالف القوانين والضوابط السائدة؟ من الواضح أنّ الجواب بالنفي، لأنه مع هذه الحرية لن يكون ثمة معنى للقانون أصلاً.
إنّ أنصار حرية العقيدة – بالمطلق - يتذرعون بنظائر قوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، في حين أنّ الآية ليس لها دلالة على ما يريدون، وإنما توكد على أنّ الإسلام اتضح وبان في القرآن والسنة النبوية؛ وبالتالي لا حاجة للإكراه بعد نصوع الحقيقة. لذلك يقول تعالى: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) التي هي في واقعها السبب والعلة في قوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) إذ بعد أن تجلت حقيقة الإسلام وبانت لا معنى لإكراه الناس عليه ومكان للإجبار.
مضافاً لذلك، إنّ جملة (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) هي حقيقة تشريعية تستند إلى حقيقة تكوينية. والسر أنّ الإكراه والإجبار لا يطالان سوى ظاهر الأعمال وحركات البدن، أما الاعتقاد القلبي فهو خارج عن دائرة الظاهر، وبالتالي فهو بعيد عن سلطة الإكراه والإجبار، وإنما تحتاج العقيدة حتى تستقر في القلب والعقل إلى أسباب أخرى من قبيل الإدراك وغيره.
لهذا ممكن أن يكون معنى الآية في إشارتها التشريعية إلى حقيقة تكوينية هي من قبيل الحكم الإرشادي: أي لا تكرهوا أحداً على قبول الدين الحق، لأنه لا سبيل للاعتقاد بهذا الدين عن طريق الإكراه والجبر.
ثم إنّ الآية بعد ذلك تدعو الناس إلى نبذ التقليد في العقائد واتباع المنطق والدليل، فالعقيدة التي تكون ثمرة للإكراه هي في حقيقتها عقيدة قائمة على أساس التقليد وليس القناعة الناتجة عن الدليل.
وفي كل الاحوال، إنّ مسألة عدم الإكراه في الدين لا تعني أبداً الحرية في انتخاب الإنسان لأية عقيدة يشاء، كما يتضح للمتأمل جيداً.(1)
شخصية الحاكم
هل يستوي المسلمون جميعاً في تعلق الولاية بهم، أم أنها تتعلق بالعدول منهم فقط؛ أو أنها تختص بالفقيه (بما يدل عليه الاصطلاح في الاستخدام المعاصر) وحسب؟
... ما يمكن أن نستنتجه من منظور هذا البحث أنّه طالما كانت الولاية ضرورية بحكم الفطرة لما يستلزمه وجودها من حفظ وإدامة للمصالح الاجتماعية العليا؛ وطالما قام الإسلام على أساس الفطرة، فإنّ حاصل جمع هاتين المقدمتين يجعلنا نوكد باطمئنان إلى أنّ الشخص الذي تتعين فيه الولاية ينبغي أن يكون الاكثر تقوى من بين الآخرين بالإضافة إلى تقدمه على غيره في الكفاءة وحسن التدبير؛ وفي الوعي والاطلاع.
وبذلك، ليس ثمة شك في أنّ المتصدين للولاية والحكم يجب أن يكونوا من بين أفضل الكفاءات التي يحتضنها المجتمع.(2)
الولاية مسألة بديهية
إنّ الإسلام دين يقوم على أساس الفطرة، وبناء على هذا الأصل أمضى الإسلام أحكام الفطرة وضروراتها، وفي طليعة هذه الضرورات والأصول الفطرية الواضحة هي مسألة «الولاية».
وبلغ من بداهة هذه المسألة ووضوحها في وعي المسلمين وحياتهم أن أحداً لم يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عنها. ففي حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد الهجرة بالذات سرت أحكام الولاية عملياً وهي تتجسّد في إدارة أمور الناس ونصب الولاة والقضاة، وممارسة التعليم والتربية وإرسال المبلغين، ورعاية الصدقات والأوقاف وغير ذلك، من دون أن يسأل أحد من المسلمين عن أصل لزوم هذه الأعمال التي تجسّد معنى الولاية، رغم أنهم سألوا عن أشياء صغيرة وغير ذات شأن كمسائل الحيض والأهلّة والإنفاق التي وردت فيها آيات من القرآن الكريم.
وفي الاتجاه نفسه الذي يدلّل على بداهة مسألة الولاية وكونها تمثل نزوعاً فطرياً أصيلاً في تكوين الإنسان، جاءت وقائع سقيفة بني ساعدة. إذ لم يكن جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وري الثرى بعد عند ما اجتمع عدد من الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقد تركوا جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جانباً وأخذوا يبحثون في كيفية اختيار خليفة.
إنّ المتمعّن في حدث السقيفة يلمس الكثير من الروى والأفكار التي تداولها الصحابة هناك، فمن قائل: منا أمير ومنكم أمير، ومن قائل غير هذا القول. بيد أنا لا نجد من الصحابة من تساءل أو شكّ في أصل أن يكون للمسلمين خليفة.
وإن كان ثمة دلالة نستوحيها من ذلك فهي أنّ الجميع كان ويستمر هكذا وهو يفتقد إلى مقام الولاية ومركزها. والإسلام بدوره أقرّ المسلمين على هذا وأمضى صحة ما قرّروه بفطرتهم من حاجة المجتمع إلى مركز الولاية والحكم.(3)
المصادر:
1- رسالة الإسلام والحرية
2- رسالة الولاية والزعامة
3- رسالة الولاية والزعامة