• عدد المراجعات :
  • 2337
  • 4/26/2006
  • تاريخ :

المثل الثالث: قسوة القلب

 القرآن الکريم

يقول الله في الاية المباركة 74 من سورة البقرة: ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْد ذَلك فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدُّ قُسْوَةً وإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءَ وإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وما اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .

الآية الشريفة جاءت في بني اسرائيل وضربت مثلا جميلا في قسوة قلوبهم; فان دفتر أعمالهم مسوَّد علي طول التاريخ. وإن التعصب واللجاجة والتحجج والغرور والضغينة تجاه الانبياء والمقاومة قبال الحق من خصال هذا القوم العاصي والكافر لنعم الله.

لقد شاكس هذا القوم المسلمين ونافق ضدهم، فمن جانب كانوا يتعاهدون مع المسلمين ومن جانب اخر ينالون منهم بخنجر من الخلف. إنَّ عداء هذا القوم المعاند للمسلمين لم تنته ابداً ولا زال مشهوداً في عصرنا هذا، بل هو حالياً بلغ ذروته. ويمكن القول: إنَّ اكبر صفعة نالتها الامة الاسلامية كانت من بني اسرائيل ومن قسم خاص منهم معروف باسم (الصهاينة); انهم في الدول الاسلامية منشأ الفساد والقتل والنزاعات والاختلافات والفحشاء واللامبالاة تجاه الاحكام الاسلامية والربا و.. إنَّ انتهاكاتهم ومظالمهم لو جمعت في مكان واحد لاصبحت كتاباً ضخماً بل كتباً. إنَّ قسوة قلوبهم بلغت درجة حيث لا يرحمون حتي انبيائهم فضلا عن غيرهم، وقد حمل منهم نبيهم  موسي(عليه السلام) الكثير.

قصة بقرة بني اسرائيل

الاية الشريفة جاءت بعد آيات حكت قصة بقرة بني اسرائيل; وخلاصة القصة محكية في الايات 67 - 73 من سورة البقرة نأتي بها هنا:

قُتِل شخص من بني اسرائيل من دون ان يعرف القاتل، وهو أمر سبب اختلافاً بين القوم. وعادة عندما يُقتل شخص يسعي البعض ان يرجعه إلي عملية تصفية الحسابات فيلقي القتل علي عاتق اطراف خاصة. وقد كان اصل الحادث ان شخصاً قتل عمه الثري، وقد كان الشاب الوارث الوحيد لعمه وكان منزعجاً من جراء تأخر وفاة عمه فقتله لينال نصيبه من الارث في وقت مبكر. وقد عدَّ البعض حبّ الشاب لابنة عمه هو سبب القتل; وذلك لان العم رغم حبه لابن اخيه زوج ابنته من شخص آخر.

إنَّ بث خبر مقتل هذا الشخص اثار ضجة شديدة جعلت البعض ومنهم القاتل الحقيقي يبحثون عن القاتل، فكانت الفتنة العظيمة وكان الموقف يوشك علي نزاع بين القبائل ليتبدل إلي حرب شاملة، فطلبوا من موسي ان يحل لهم المشكلة فكانت المساءلة التالية حسب ما دونها القرآن: ( وإذْ قَالَ مُوسَيَ لِقَومهِ إنَّ الله يَأمُرُكُم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أتتَّخذُنا هُزُواً ) ؟، ( قَالَ أعُوذُ باللهِ أن أكُون مِنَ الجَاهِلِينَ ). أي أنَّ الاستهزاء من عمل الجاهلين، والانبياء مبرؤون من ذلك.

بعد أن ايقنوا جدية المسألة، ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِي ) ؟

أجابهم موسي(عليه السلام): ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلك )، أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة بل متوسطة بين الحالتين ( فافْعَلُوا ماَ تُؤْمَرُونَ ) لكن بني اسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم، ( قَالُوا ادعُ لَنَا رَبَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا لَوْنُها ) أجابهم موسي ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقرَةٌ صَفْرَاءٌ فَاقِعٌ لَوْنُها تُسِرُّ النَاظِرِينَ ) أي أنَّها حسنة ولا يشوبها لون آخر.

ثم لجوا مرة أخري وعاودوا السؤال: ( قَالُوا ادْعُ لَنَا ربَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِيَ إنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ لمُهْتَدُونَ ) . أجابهم موسي ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُول تُثِيرُ الأرضَ ولا تُسْقِي الحَرْثَ )، أي ليست من النوع المذلل لحرث الارض وسقيها. وبعد المساعي الحثيثة وجدوا هذه البقرة وذبحوها ولمسوا الاعجاز الالهي.

الشرح والتفسير

المفروض بهذه الاية العظيمة ان تزيد من ايمان القوم إلا أنَّ ذلك لم يحصل، بل الآية الشريفة حكت حالهم بعد ذلك بالقول: (

قَسَتْ فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشدُّ قَسْوَةً ) أي لم تزد هذه الاية الكبري القوم الا لجاجة وقسوة وتمرداً وعصياناً وانتهاكاً لحرمات الانبياء و.. وذلك بسبب قسوة قلوبهم تحجّرها.

ان مفردة (قلب) استخدمت مائة وثلاثين مرة في القرآن، لكن يا تري هل يراد من هذه المفردة ذلك العضو الصنوبري الذي يدق في الدقيقة اكثر من سبعين مرة في الجسم ليضخ دم الإنسان إلي جميع اجزاء جسمه مرتين في الدقيقة؟ إنَّ هذا العضو من عجائب خلق الله حقاً وله في الجسم وظائف مهمة، لكن مراد الله من القلب في القرآن ليس ذلك العضو.

نشير هنا باقتضاب إلي مهام هذا العضو وذلك لايضاح اهميته:

- أولا: تغذية جميع خلايا الجسم : إنَّ الاغذية التي تصل المعدة تمتزج مع ترشحات المعدة لتتهيّأ للذهاب إلي الأمعاء; وتتم عملية هضم وجذب الاغذية في الامعاء من خلال الدم، والأخير يوزعها علي جميع خلايا الجسم وبذلك تتم عملية تغذية الجسم.

- ثانيا: ارواء الإنسان: إنَّ الجزء الاكبر من جسم الإنسان عبارة عن الماء واذا ما قلت نسبة الماء في الجسم فانه قد يؤول ذلك الامر إلي الموت إذا ما بلغ مستوي الجفاف.

- ثالثاً: ايصال الحرارة الموحدة للجسم : ان جسم الإنسان حار، لكن هل فكرتم من اين قدمت له هذه الحرارة ؟ ان الاوكسجين يدخل الجهاز التنفسي ومن خلال هذا الجهاز يدخل الدم ليصل من خلاله إلي جميع خلايا الجسم، واثر الاحتراق الذي يوجده الاوكسجين عند تركبه مع اغذية الخلايا تتولد حرارة تنتقل هذه الحرارة بشكل ثابت إلي جميع اجزاء الجسم بواسطة الدم.

- رابعاً: جمع المواد الزائدة والسمية ودفعها: ان احتراق الاغذية في الجسم يولد مواد سمية وزائدة يطرح جسم الإنسان بعضها من خلال الزفير وبعضها الاخر من خلال الكلية والادرار، وهذه العمليات كلها تتم من خلال الدم.

ير قيمي بل مخالف للقيم

حقاً ان القلب مع هذه الظرافة والعمل المتواصل آية إلهية عظمي، فلو كان هذا القلب من حديد لصدأ وتلف خلال سبعين سنة من عمر الإنسان الا ان قدرة الله اللامتناهية صنعت منه عضواً يعمل اكثر من مائة سنة في بعض الموارد. والمدهش هنا أنَّ القلب من الاعضاء التي تعمل ليل نهار وفي النوم واليقظة رغم أنَّ نشاطه عند النوم أقل.

ومن هنا نجد سر تعظيم المؤمنين وتمجيدهم مقولة الله تعالي: (  وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أنْفُسِكُمْ أفَلاَ تُبْصِرُونَ )،(1) لو لم يكن لدينا دليل علي عظمة الخالق غير القلب لكان كافياً لادراك قدرته وحكمته السرمدية.

ولأجل استيعاب عظمة الخلق وادراك اكبر لهذه الهدية الالهية القيمة نقرأ الموضوع التالي:

القلب الصناعي مرآة لعظمة قلب الإنسان

كلّفت صناعة قلب صناعي قبل عدة سنوات ثلاثين مليون دولاراً، إلاَّ أنَّ هذا القلب لم يدم عمله اكثر من ستة أيام، كما أنَّ المستفيد منه لم يكن قادراً علي الحركة والمشي خلال هذه الفترة. كيف يمكننا شكر الخالق علي نعمة القلب التي منحها اياناً مجاناً؟

ما أجمل ما قاله القرآن: (  وَفِي أنْفُسِكُم أفَلاَ تُبْصِرُونَ ) .

وبعد ما عرفنا أنَّ المراد من القلب في الاية ليس ذلك العضو الصنوبري نقول هنا: إنَّ المراد منه هو العقل والعاطفة. يقول الله في سورة الاعراف الاية 179: ( وَلَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا )فالمراد من القلب هنا هو العقل والعاطفة، لأن الفهم والادراك من شأن العقل، كما أنّ الإحساس والشعور والحب والمعرفة من شأن العاطفة والعقل، وكنموذج علي ذلك يقول الله في الاية 10 من سورة البقرة: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فزَادَهُم اللهُ مَرَضَاً ) .

هل إنَّ قلب المنافق الصنوبري يعطل من جراء مرض النفاق؟ أو أنَّ مرض النفاق يؤدي إلي اتساع في صمام القلب؟

من الواضح أنَّه لا يراد من القلب ذلك العضو الصنوبري، ولا يراد من المرض تلك الحالة الطبيعية التي تعرض للإنسان وأعضائه. إنّ القلب هنا هو العقل والعاطفة اللتان قد يضعفان بسبب مرض النفاق إلي مستوي يسمحان للانسان قتل الابرياء في حرم الامام الرضا(عليه السلام)، فهما في الحقيقة يموتان.

نقرأ في رواية أنّ للأمر بالمعروف ثلاث مراحل:

 الأمر بالقلب أولا، وباللسان ثانياً، وبالعمل ثالثاً. فاذا كانت المرحلة الأخيرة غير ممكنة فتتوجب المرحلتان الاوليتان. وإذا استحالت المرحلة الثانية والثالثة فعلينا بالاولي أي علينا ان نكون متذمرين من الظالمين وسلوكهم وأن نكون محبين للمؤمنين والمصلحين. واذا ترك شخص الامر بالمعروف بمراحله الثلاث فقد صدق عليه الحديث التالي: «فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلبَ، فَجُعِلَ أعلاه اسفله»، (2) وهل يراد من القلب هنا هو ذلك العضو الصنوبري ؟ بالطبع لا، لان ذلك العضو لا يتحرك من مكانه ولا يتزلزل بل المراد منه هو العاطفة والادراك.

مما مضي نستنتج ان للقلب معينين في القرآن والروايات:

 1- العقل الانساني

 2- العواطف الانسانية.

وهما ظاهرتان روحيتان يعدان مركزاً للادراك والشعور. ولهذا عندما يقال: (لهم قلوب لكن لا يفقهون) فان المراد كونهم يملكون القلب لكن ملكة الادراك عندهم معطلة وإذا قيل ( قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فإنَّ المراد أنَّ عواطفهم ميتة.

القلب الذي في الاية 46 من سورة الحج ( فإنَّهَا لا تَعْمَي الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَي القُلُوبُ التي فِي الصُّدُورِ ) قد يعني ذلك العضو الصنوبري بقرينة (في الصدور)، لكن هل الواقع كذلك؟

رغم أنَّ العقل ليس في صدر الإنسان، إلاّ أنَّ له ارتباطاً بالدماغ ولذلك نري البعض قد تعطل دماغه لكنَّ قلبه لا زال يعمل. وعلي هذا فالصدر الذي في الاية ليس ذلك الجزء من البدن المكسو بالقفص بل المراد منه الروح. وعليه فالقلب هنا يعني العقل والإدراك، فمفهوم الآية هو (العقول التي في الأرواح).

وهناك إحتمال آخر وهو: رغم أنّ هذا العضو الصنوبري ليس مركزاً للعواطف والعقل، إلاّ أنَّ الأمر لا يخلو عن علاقة بينهما; وذلك لان هناك علاقة مباشرة بين القلب والروح أو العقل والعاطفة فان القلب يتأثر مباشرة وأولا في أي ظاهرة تطرأ علي الإنسان، فاذا واجه الإنسان موقفاً مفرحاً ازدادت ضربات قلبه وسرعت; وإذا واجه موقفاً مؤلماً شعر في قلبه التعب والثقل، وكذا الامر في كل الحوادث والقضايا الروحية. إنَّ العلاقة بين القضايا الروحية والقلب هي كالعلاقة بين الماء والعين وسطح الارض. إنَّ الماء يعلو من الطبقات التحتية للارض ثم ينبع من نقطة خاصة من الارض والظواهر الروحية مثل ذلك، فإنها تنبع من القلب. ومن خلال التفاسير الماضية يمكننا معرفة الكلام الالهي في الاية الكريمة ( قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) .

تصوير القرآن لقلوب بني إسرائيل

لقد وصف القرآن قلوب بني اسرائيل في الاية 74 من سورة البقرة بانها كالحجارة أو اشد قسوة: (  ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُهُم مِنْ بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحِجَارةِ أو أشدّ قَسْوَةً ) وقد اختلف المفسرون في تفسير ( فَهِيَ كالحِجَارَةِ ) وفي ( أو أشَدَّ قَسْوَةً ) .

بما أنَّ الآية نزلت في المنافقين وبما أنَّ للنفاق درجات ومراتب فإنَّ صفة كالحجارة ترجع إلي طائفة خاصة من المنافقين، وأمّا ( أو أشَدُّ قَسْوَةً ) فترجع إلي طائفة أخري أسوء حالا من السابقة.

لكن كيف يمكن للقلب أنْ يَكُون أشدَّ قسوةً من الحجارة ؟

إنَّ القُرآن يعدّ ثلاث بركات من بركات الحجارة:

- الأُولي: بعض الاحجار في الجبال تتفجر لينبع منها الماء والأنهار وبجريانه تُروي المزارع والنباتات والحيوانات. نعم، ان للحجارة بركة التفجر لينبع الماء، وهي بركة عظيمة إلاّ أنَّ قلوب بني اسرائيل لا ينبع منها الفضيلة ولا العلم ولا الحكمة كما انها ليست مراكز للعواطف والحب والحنان; إنَّ قُلُوبهم أشدّ قَسوة من الحجارة حقاً.

- الثانية: إنَّ من الاحجار تتشقق لتضم في شقوقها مقداراً من الماء. ورغم أنَّ هذا الماء لا يروي المزارع والحيوانات، إلاّ أنه قد ينقذ حياة سائر عطشان. أمّا قلوب بني اسرائيل فهي لا تضم حتي ذلك المقدار القليل من المحبة والحنان.

- الثالثة: بعض الاحجار تهبط وتسقط خشية من الله وخضوعاً امام قدرته واستطاعته العظمي كما تؤكد ذلك الآية 21 من سورة الحشر ( لَوْ أنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلَي جَبَل لَرَأيْتَه خاَشِعاً مُتَصَدّعاً مِن خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُها للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفكَرُونَ ).

----------------------------------------------------------

الهوامش

1. الذاريات: 20 - 21.

2. بحار الانوار 97: 89 (طبع بيروت).


المثل الخامس: الإنفاق

المثل السادس: الإنفاق مع المنِّ والأذي

المثل السابع: الإنفاق اللائق

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)