تبعات الخذلان
القرآن الكريم وكما استفاد من أسلوب التبشير والترغيب في حثّ المجاهدين، أشار أيضاً إلى أسلوب الإنذار أو التهديد فأنذر المتخاذلين من عذاب الله الشديد وعقابه الأليم في دار الآخرة. وحذّرهم من تبعات الخذلان وعواقبه وما يرافقه من الابتلاءات والمصائب في الحياة الدنيا.
ويكمن سرُّ أسلوب الإنذار أيضاً ـ وكما ذكرنا في أسلوب التبشير ـ في أنَّ كثيراً من الناس قد تتحرّك الدوافع لديهم أكثر، عند ذكر المُرهبات والمُرغّبات الدنيوية لأُنسهم الشديد بها من خلال تلمُّسها وحضورها أمام أعينهم، فتتحرّك لديهم الدوافع لما يرونه ويلمسونه من آثارها، أكثرَ من تحرُّكهم لذكر المرغِّبات أو المرهِّبات بالنِّعم والمصائب الأخروية إذ إنَّها غيرُ محسوسةٍ لهم وليست تحت مشاهدتهم.
وها هنا بعضُ من النماذج القرآنية التي ذُكر فيها هذا العامل:
الآية الأولى:
قال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاوُكُمْ وَأَبْنَآوُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)1.
إنّ لحنَ هذه الآية الشريفة يحمل تهديداً شديد اللهجة، فالله تعالى يُنذرهم من خراب المستقبل ويحذرهم من السخط والغضب الإلهي في حال كان التقصير أو الإهمال في أداء التكاليف ناتجاً عن تقديمهم حبّ العائلة والمال والتجارة على القتال، فيحذِّرهم من ترك أمر الجهاد المهمّ مقابل التعلقات الماديةِ وحبّ الرَّاحة.
فنستنتج من هذه الآية أنه لو أصبح حب تلك المسائل الدنيوية أكثر من حب الإنسان لله وأدّت هذه التعلّقات الدنيوية إلى اتباع القلب لها وتَرْ ك الجهاد في سبيل الله، عندها فلْيتوقَّع هذا الإنسانُ أو هذه الأمة غضب الله والعواقب الوخيمة جزاء خذلانه وتركه لواجب الجهاد.
إنَّ أدنى مراتب الحبِّ الإلهيِّ عند المومن, هي أن لا يكون حبُّ الله تعالى في قلب هذا المومن أقلَّ من حبِّه للأشخاص الأقرباء أو أشيائه المادية. وهل يُعقل من مومن بالله تعالى أن يحبّ سيّارته، وماله، أكثر من حبه لله تعالى؟ السيارة والمال مكانها في الكاراج وفي البنك لا في قلب المومن، لأن قلبَ المومن هو عرشُ الله، وما وسعتني أرضي ولا سمائي، لكن وسعني قلب عبدي المومن.
طبعاً في درجات أهلِ الإيمان العليا, قد يصلُ الإنسان المومنُ إلى مرحلةٍ لا يرى فيها وجوداً سوى الله تعالى، ولا محبوباً في قلبه غير الله عز وجل. نعم في هذه المرحلة تعلُّق قلبُ المومن بالموجودات الأخرى إنما يكون تحت شعاع الحب الإلهي وفي ضمن دائرته.
الآية الثانية:
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ)2.
إنّ هذه الآيات هي خطابٌ لفريق من المومنين ضعيفي الإيمان، أو للمنافقين الذين يدَّعون الإيمان ظاهراً، وقلوبهم متعلِّقة بقوة بالدنيا والمادياتِ، ويظهرون العلل والأعذار حين صدور أمر الجهاد في سبيل الله من أجل أن لا تضيع عليهم تلك الماديات.
الله تعالى يخاطب هولاء في تلك الآيات بلحنٍ ممزوجٍ بالعتاب:
لماذا تلتصقون بالأرض عند إعطاء الأمر بالجهاد ولا تتحركون إلى ساحات القتال؟
هل رضيتم بالتخلي عن السعادة الأخروية الخالدة مقابل متاع أيام قلائل في الحياة الدنيا؟
ثم يتوجّه الخطاب الإلهي إلى المومنين محذِّراً: إن لم تنهضوا لقتال الأعداء وتسارعوا إلى الجهاد فإن الله سوف يبتليكم ويعذبكم ويستبدل بكم غيركم ليكونوا أنصار دينه ومجرى لتحقُّق العدالة والإرادة الإلهيّة بقتل الكفار والمشركين بأيدي هولاء المومنين.
الآية الثالثة:
يقول الله تعالى: (هَاأَنتُمْ هَوُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)3.
تتوجّه هذه الآية إلى الذين يملكون القدرة على إنفاق أموالهم في سبيل الله، وبالتالي القدرة على تقوية الخطوط الخلفية للجبهة، فيحيوا في نفوس الجهاديين المتواجدين على خطوط الجبهة الأمامية الأمل بالنصر على الأعداء.لكن هولاء ومع عظيم خطر هذه المسوولية، يبخلون ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعني الجهادُ الماليُّ لهم شيئاً.
ومن الواضح أنه في صدر الإسلام وفي زمن نزول هذه الآية كان أكثر الإنفاق والمساعدات المالية تُصرف من أجل تأمين وتغطية مصاريف الحرب والجهاد في سبيل الله، وكان المسلمون حينها في حاجة شديدة وضرورة أكيدة إلى تأمين مثل هذه المصاريف من أجل تحقيق انتصار الإسلام الحاسم على الكفر.
إنّ الله تعالى يخاطب هولاء الذين يبخلون بإنفاق أموالهم، ويحذّرهم من إجراء سنة الاستبدال فيما لو بخلوا ولم ينفقوا، إذ يستبدلهم الله تعالى بقوم لا يبخلون، بل يبذلون الأموال في سبيل الله بكل شوق ورغبة ونية خالصة، يقول الله تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ..)4.
وهذه أيضاً من الآيات المتعلِّقة بالجهاد والتي تدل على حقيقة واحدة وهي أن المسلمين لو بخلوا ولم ينفقوا أموالهم في سبيل الله ولم يسعوا لتأمين تكاليف الحرب ضد الأعداء فإن النتيجة الطبيعية لمثل هذا الإمساك والبخل هي انتصار العدو في الحرب، وبالتالي سوف يقع المسلمون تحت قمع وعذاب هذا العدو، وستتلف أموالهم وتضيع.
وبناءً عليه: إنَّ البخلَ وعدمَ الإنفاقِ في سبيل الله ليس في نفع المسلمين على كل الصعد خاصة من الناحية الاقتصادية، لأنه سيجعل أموالهم وأرواحهم وأعراضهم وحرماتهم وماء وجههم وعزتهم وشرفهم ودينهم, تحت سلطة العدو المنتصر، وعندها لن يبقى لهم لا مال ولا شرف، ولا دنيا ولا آخرة أيضاً، فكل ذلك سوف يفنى ويهلك فيما لو بخلتم وأمسكتم عن الإنفاق, وسيكون سبباً طبيعياً ومباشراً لأن يُهزم المجاهدون وينتصر العدو لا سمح الله.
المصدر:
1- سورة التوبة، الآية 24.
2- سورة التوبة، الآية 38.
3- سورة محمد، الآية 38.
4- سورة البقرة، الآية 195.
الإعداد العقائدي
الحثّ على الجهاد
التجهيز