دور الامام الرضا عليه السلام السياسي
هجرة الإمام من المدينة المنوّرة إلى خراسان
لقد بقي الإمام الرضا بعد أبيه عشرين عاماً، منها: عشر سنوات في عهد هارون الرشيد وكان يتجرع خلالها مرارة الأحداث ويتعرضه الرشيد بين الحين والآخر، كالجلودي الذي أوعز إليه الرشيد بأن يهاجم دور آل أبي طالب، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلل، ولا يدع على واحدةٍ منهنّ ثوباً يسترها، والجلودي نفذ أوامر الرشيد، فلما انتهى إلى دار الإمام الرضا (عليه السلام) بخيله وجنده وقف الإمام على باب داره وجعل نساءه في بيت واحد وحاول أن يمنعهم من دخوله، فقال له الجلودي: لابدّ وأن ادخل البيت وأتولى بنفسي سلبَهنّ كما أمرني الرشيد، فقال له الرضا: أنا أسلبهّن لك ولا أترك عليهن شيئاً إلا جئتك به، وظلّ يمانعه ويحلف له بأنه سيأخذ جميع ما عليهن من حلى وحلل وملابس حتى سكن، ووافق على طلب الإمام.
فدخل أبو الحسن الرضا على نسائه ولم يدع عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وملابسهن إلاّ أخذه منهن وأضاف إليه جميع ما في الدار من قليل وكثير وسلمه إلى الجلودي.
قاسى الإمام الرضا وأصحاب أبيه موسى بن جعفر (عليهم السلام) من الظلم والبلاء من هارون الرشيد ما قاساه أبوه الكاظم (عليه السلام)، إلى أن توفى الرشيد، وأوصى بولاية العهد لابنه محمد الأمين، ومن بعده لولده عبد الله المأمون، وبعدهما لولده القاسم كما وزع المناطق بينهم، فجعل للأمين ولاية العراق والشام إلى آخر المغرب، وللمأمون من همدان إلى آخر المشرق بما في ذلك خراسان وجهاتها، ولولده القاسم الجزيرة والثغور والعواصم.
ولما انتقلت الخلافة لمحمّد الأمين قتله أخوه عبد الله المأمون بعد ما دارت المعارك بينهما، وانتقلت السلطة إلى المأمون في جميع الأطراف.
روى الكليني بإسناده عن علي بن إبراهيم عن ياسر الخادم والريّان بن الصلت جميعاً قال: (لما انقضى أمر المخلوع واستوى الأمر للمأمون كتب إلى الرضا (عليه السلام) يستقدمه إلى خراسان فاعتّل عليه أبو الحسن (عليه السلام) بعلل فلم يزل المأمون يكاتبه في ذلك حتى علم أنه لا محيص له، وأنه لا يكف عنه، فخرج (عليه السلام) ولأبي جعفر سبع سنين، فكتب إليه المأمون، لا تأخذ على طريق الجبل وقم، وخذ على طريق البصرة والأهواز وفارس)(1).
ولاية العهد
في سنة 198 هجرية بعد قتل محمّد الأمين، وانتقال السلطة إلى أخيه عبد الله المأمون، أحسّ المأمون أنّ الأخطار تهدد دولته من جميع الجهات.
ففي الكوفة: خرج ابن السّرايا يدعو لمحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام) وبايعه الناس.
وفي المدينة: خرج محمّد بن سليمان بن داود بن الحسن، والحسن بن الحسين بن علي بن الحسين المعروف بالأفطس، ودعا إلى ابن طباطبا فلما مات ابن طباطبا دعا إلى نفسه، واشتعلت الثورات في أنحاء دولة المأمون ومع كل ثائر عشرات الألوف يناصرونه على أولئك الجبابرة الذين أقاموا عروشهم على جماجم الأبرياء والصلحاء وقتل الأئمة المعصومين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام).
وكانت دولة بني العباس مهددةً بالأخطار وكانت أكثر حركات التمرد بقيادة العلويين.
وأدرك المأمون في تلك الفترة ـ وفي أول خلافته ـ حراجة الموقف وأخطاره فلم يجد لبقاء دولته وسيلةً أنفع من التظاهر بالتشيع، وبرغبته من التنازل عن الخلافة إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، وهو يعلم أن الإمام سيرفض ذلك، وكان الأمر كذلك. وأخيراً أكرهه على ولاية العهد والإقامة معه في بلد واحد وتظاهر نفاقاً بالولاء له ولآبائه، وأمر الولاة بالدعوة للرضا (عليه السلام) على المنابر.
وما يهمه من هذا التضليل إلاّ أن يتلافى مشكلة العلويين الذين كانوا يهددون دولة المأمون، وأن يطمئن على موقف الشيعة من خلافته ولكن المأمون كان يضمر السوء بأن يجعل من الإمام واجهةً يستر بها أهدافه ومصالحه، كما يشير إلى ذلك ما جاء في جوابه لبني العباس عندما اعترض عليه بعضهم قائلاً يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن يكون تاريخ الخلفاء في إخراجك هذا الشرف العميم والفخر العظيم من بيت ولد العباس إلى بيت ولد علي (عليه السلام)، اعتب على نفسك وأهلك، جئت بهذا الساحر من ولد السحرة، وقد كان خاملاً فأظهرته، ووضيعاً فرفعته، ومنسياً فذكرت به، ومستخفّاً به فنوّهت به، قد ملأ الدنيا مخرقةً وتشوقاً.. ما أخوفني أن يخرج هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي، بل ما أخوفني أن يتوصّل بسحره إلى إزالة نعمتك والتوثب على مملكتك، هل جنا أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟
فقال المأمون: قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه إلينا، ولنعرف ما يخالفه والملك لنا، وليعتقد فيه المعترفون به أنّه ليس مما ادّعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا ان تركناه على تلك الحالة أن يتفوق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه، والآن وإذ قد فعلنا به ما قد فعلنا، وأخطأنا في أمره ما أخطأنا وأشرفنا من الهلاك ـ بالتنويه به ـ على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتى نصوّره عند الرعايا بصور من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه)(2).
الهوامش
1 - أصول الكافي الطبعة المشكولة : ج 1 كتاب الحجّة باب مولد أبي الحسن الرضا (عليه السلام) : ص 408 رقم 7.
2 - فرائد السمطين : ج 2 ص 214، ورواه المجلسي في البحار : ج 49 ص 182.