زهد الإمام الكاظم ( عليه السلام ) و حلمه
كان الإمام الكاظم ( عليه السلام ) زاهداً في الدنيا ، و معرضاً عن مَبَاهجها و زينتها ، فآثرَ طاعة الله تعالى على كل شيء .
و كان بيته ( عليه السلام ) خالياً من جميع أَمتِعَة الحياة ، و قد تحدث عنه إبراهيم بن عبد الحميد فقال : « دخلت عليه في بيته الذي كان يصلي ( عليه السلام ) فيه ، فإذا ليس فيه شيء سوى خصفة ، و سيف مُعلَّق ، ومصحَف » . و كان ( عليه السلام ) كثيراً ما يتلو على أصحابه سيرة الصحابي الثائر العظيم أبي ذر الغفاري الذي طلّق الدنيا ، و لم يحفل بأي شيء من زينَتِها قائلاً :
(رحم الله أباذر ، فلقد كان يقول : جَزى الله الدنيا عني مَذمّة بعد رغيفين من الشعير ، أتغذّى بأحدهما ، و أتعشّى بالآخر ، و بعد شملتي الصوف ائتزرُ بأحدهما ، و أتَردّى بالأخرى ) .
لقد وضع الإمام الكاظم ( عليه السلام ) نصب عينيه سيرة العظماء الخالدين من صحابة جَدِّه سيد المرسلين ( صلى الله عليه و آله ) يشيد بسيرتهم ، و يتلو مآثرهم على أصحابه و تلاميذه ، لتكون لهم قدوة حسنة في حياتهم .
و أما الحِلم فهو من أبرز صفات الإمام ( عليه السلام ) ، فقد كان مضرب المثل في حلمه و كَظْمِه للغَيظ .
و يقول الرواة : أنه ( عليه السلام ) كان يعفو عمن أساء إليه ، و يصفح عمن اعتدى عليه ، و ذكر الرواة بَوادِر كثيرة من حلمه كان منها :
أولاً :
إن رجلاً كان يسيء للإمام ( عليه السلام ) ، و يسبُ جَدّه الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فأراد بعض شيعة الإمام ( عليه السلام ) تأديبه ، فَنَهَاهُم عن ذلك ، و رأى أن يعالجه بغير ذلك .
فسأل ( عليه السلام ) عن مكانه ، فقيل له : إن له ضيعة في بعض نواحي المدينة المنورة ، و هو يزرع فيها .
فركب الإمام ( عليه السلام ) بَغلَته ، و مضى متنكراً إليه ، فأقبل نحوه .
فصاح به الرجل : لاتَطأْ زرعنا .
فلم يحفل به الإمام ( عليه السلام ) إذ لم يجد طريقا يسلكه غير ذلك . ولما انتهى إليه قابله الإمام ( عليه السلام ) بِبَسَمات فَيّاضة بالبشر قائلاً له : ( كم غرمت في زرعك هذا ) ؟
فقال : مائة دينار .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( كم ترجو أن تصيبَ منه ) ؟ ، فقال : أنا لا أعلم الغيب .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( إنما قلت لك : كَمْ ترجو أن يجيئَكَ منه ) ؟ ، فقال : أرجو أن يجيئَني منه مائتا دينار .
فأعطاه سَلِيلُ النبوةِ ثلاثَ مِائة دينار ، و قال : هذه لك و زرعك على حاله .
فانقلب الرجل رأساً على عَقِب ، و خَجل على ما فَرّط في حقّ الإمام ( عليه السلام ) .
ثم انصرف الإمام ( عليه السلام ) عنه وقصد الجامع النبوي ، فوجد الرجل قد سبقه ، فلما رأى الإمام ( عليه السلام ) قام إليه ، و هو يهتف بين الناس : الله أعلمُ حيثُ يجعل رسالته فيمن يشاء . و بادرَ أصحابه مُنكِرين عليه هذا التغيير ، فأخذ يخاصمهم و يذكر مناقب الإمام ( عليه السلام ) و مآثره .
لقد عامل الإمام ( عليه السلام ) مبغضيه و مناوئيه بالإحسان و اللّطف ، فاقتلَعَ من نفوسهم النزعات الشريرة ، و غسل ( عليه السلام ) أدمِغَتَهم التي كانت مُترَعَة بالجهل و النقص .
وقد وضع ( عليه السلام ) أمامه قوله تعالى : (إِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيْمٌ ) [ فصلت : 34 ] .
ثانياً :
و من آيات حِلمه ( عليه السلام ) أنه اجتاز على جماعة من أعدائه ، كان فيهم ابن هَيّاج ، فأمر بعض أتباعه أن يتعلق بِلِجَام بَغْلَة الإمام ( عليه السلام ) ، و يَدّعي أنها لَه ، ففعل ذلك ، و عرف الإمام ( عليه السلام ) غايته ، فنزل عن البَغلة و أعطاها له . و قد أعطى الإمام ( عليه السلام ) بذلك مَثَلاً أعلى للحلم و سِعَة النفس . و كان ( عليه السلام ) يوصي أبناءه بالتَحَلّي بهذه الصفة الكريمة ، فقد قال ( عليه السلام ) لهم : (يَا بني ، أوصيكم بوصية مَن حَفظَها انتَفَع بها ، إذا أتاكم آتٍ ، فأسمع أحدَكم في الأذن اليُمنى مَكروهاً ، ثم تَحوَّل إلى اليسرى فاعتذَرَ لَكم وقال : إِني لم أَقُلْ شيئاً ، فَاقبلُوا عُذرَه ) .
وصية الإمام الكاظم ( عليه السلام ) لهشام بن الحكم حول العقل