• عدد المراجعات :
  • 1446
  • 5/2/2004
  • تاريخ :

ثقافة الوحدة والحوار

لسنا بحاجة للتأكيد هنا على أهمية الحوار وضرورته، فهي حقيقة واضحة لا يجادل فيها عاقل، خاصة بعد أن رأينا النتائج الوخيمة، والآثار المّرة لافتقاد الحوار. بيد أن المطلوب توفير الأجواء الملائمة، والعوامل المساعدة، لتكريس منهجية الحوار، ولإنجاح مسيرته، وتفعيل دوره على المستوى الوطني العام. ولعل من أهم ما نحتاج إليه لتكريس منهجية الحوار، على مستوى الأمة والوطن، هو توفير الثقافة الوحدوية الجامعة، التي تهيئ النفوس، وتوجه العقول نحو الوحدة الإسلامية والوطنية، وباتجاه لغة الحوار، واحترام الرأي الآخر. إن من الضروري بعث حركة ثقافية واسعة، تبشّر بالمفاهيم الإسلامية، والقيم الإنسانية، الداعية إلى الوحدة والحوار، وإلى الوئام والانسجام، بين بني البشر عامة، وبين أبناء الوطن بشكل خاص. وفي طليعة هذه المفاهيم والقيم، تأتي قضية حقوق الإنسان، وحرمة المسلم، وحقوق المواطنة.


حقوق الإنسان:

لقد سادت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية دعوات واتجاهات تركز على الحدود الفاصلة بين الجماعات والانتماءات المتنوعة، لتصنع من خلالها جداراً سميكاً يعزل كل جماعة عن الأخرى، ويوجد لها عالمها الخاص في الأفكار والمشاعر والمصالح، مع أنها تعيش على صعيد وطن واحد. ويجري هذا في عالم تهاوت فيه الحدود، وانهارت الحواجز، وانعدمت المسافات، حيث أصبح قرية واحدة حسب التعبير الشائع. وكأن هذه الدعوات لا تعترف بكل هذا التطور الواقع، وتصّر على طروحاتها الضيقة المنغلقة. منطلقة من فهم ديني خاطئ، لا ينسجم مع إنسانية الإسلام، وعالمية دعوته، ولا يتوافق مع ثوابت نظامه الاجتماعي، كالوحدة والعدل والإحسان. إن التمايز بين الناس في أديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، لا يعني التنكر لوحدتهم الإنسانية، التي يقررها القرآن الكريم في آيات كثيرة:

يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ وَاحِدَةٍ ﴾، يقول تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ وَاحِدَةٍ ﴾.

كما يذّكر القرآن الكريم أبناء البشر بانتمائهم إلى أب واحد، هو آدم، فيخاطبهم بصفة انتسابهم إليه كقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفتِنَنَّكُمُ الشَّيطَانُ ﴾. وقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأتِيَنَّكُم رُسُلٌ مِّنكُم ﴾.

أما الآيات التي تخاطب الناس من خلال بشريتهم وإنسانيتهم بلفظ ﴿ يا أيها الناس ﴾ فهي كثيرة جداً. هذه المنهجية في الخطاب القرآني ليست عفوية ولا عبثاً، وإنما هي تذكير وتأكيد على حقيقة الاشتراك والمشاركة بين أبناء البشر، وإن تنوعت أعراقهم وأديانهم وتوجهاتهم، فهم من أصل واحد، وينتمون إلى عائلة واحدة، ويتساوون في خلقتهم، ويشتركون في الاستفادة من خيرات الكون، وثروات الطبيعة، والتي جعلها الله تعالى تحت تصرف الجميع دون تمييز: يقول تعالى: ﴿ وَالأَرضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ﴾، أي للناس. ويقول تعالى: ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِن عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحظُورًا ﴾.

إن الالتفات إلى هذه المنهجية القرآنية، يربي الإنسان المسلم على النظر إلى جميع أبناء البشر كأشقاء له في الإنسانية، ونظراء له في الخلق، وشركاء معه في الحياة، مما يؤسس لعلاقة إنسانية إيجابية، تتخطى التمايزات الثانوية، كاختلاف العرق أو الدين، يقول تعالى: ﴿ لاَ يَنهَاكُم اللَّهُ عَن الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَم يُخرِجُوكُم مِن دِيَارِكُم أَن تَبَرُّوهُم وَتُقسِطُوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ ﴾.

ويوجه الإمام علي بن أبي طالب واليه على مصر (مالك الأشتر)، بأن يستحضر هذه الرؤية الإنسانية، في تعامله مع مواطنيه، على اختلاف أديانهم يقول: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».

وفي هذا السياق تأتي أهمية نشر ثقافة حقوق الإنسان، والتي هي مبادئ إسلامية أصيلة، وليست مفهوماً غربياً وافداً، كما قد تطرحه بعض الجهات، وإذا كانت هناك نقاط معينة نتحفظ عليها في وثيقة حقوق الإنسان من الناحية الشرعية، وإذا كانت بعض الدول الكبرى تستغل موضوع حقوق الإنسان، لتبرير تدخلاتها وضغوطها على الدول النامية، فإن ذلك لا يبرر تجاهل قضية حقوق الإنسان، وضعف حضورها في الخطاب الإسلامي. بل إن بعض ألوان الخطاب الإسلامي تبدو وكأنها ترفض الاعتراف بأدنى الحقوق الإنسانية لمن يخالفها في الرأي، حيث يكون مهدور الدم، محروماً من جميع حقوقه المادية والمعنوية. مع أن القرآن الكريم ينص على تكريم الله تعالى للإنسان، باعتبار إنسانيته وقبل أي شيء آخر، يقول تعالى: ﴿ وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاً ﴾. قال ابن عاشور محمد الطاهر في تفسيره (التحرير والتنوير): «والمراد ببني آدم جميع النوع، فالأوصاف المثبتة هنا إنما هي أحكام للنوع من حيث هو كما هو شأن الأحكام التي تستند إلى الجماعات». وجاء في تفسير آخر: «إن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر، مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية، والقرب والفضيلة الروحية المحضة، فالكلام يعم المشركين والكفار والفساق».


حرمة المسلم:

من الطبيعي أن تتعدد الآراء، وتتنوع التوجهات ضمن المجتمع الإسلامي الكبير، سواء في مجال فهم الدين، والذي هو عبارة عن النص الشرعي المنقول، المتمثل في الكتاب العزيز، والسنة الشريفة، وذلك إما للاختلاف في ثبوت النص، كما هو الحال بالنسبة لبعض أحاديث السنة النبوية، أو للاختلاف في فهم دلالته، وإن كان صدوره قطعياً ككتاب الله المجيد. أو في مجال تشخيص المصالح الخارجية، حيث يبتني على الاختلاف فيها، تنوع المواقف السياسية، والانتماءات الاجتماعية. لكن هذا التنوع لا يصح أن يؤثر على الإقرار بالهوية المشتركة، والانتماء الواحد، لجميع أبناء الأمة وهو الإسلام. فكل من آمن بالإسلام ديناً، وأقر بأصوله وأركانه فهو عضو في المجتمع الإسلامي، وجزء لا يتجزأ من الأمة، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، يتعاملون معه كأخ لهم، ويتمتع بالحصانة الكاملة، من حرمة دمه وماله وعرضه، إلاّ بحقّ، ضمن ضوابط القانون الذي ينطبق على الجميع. ولا يصح لأي جهة أن تحتكر الهوية الإسلامية لنفسها، وتسلبها عن الآخرين المختلفين معها، في الآراء أو المواقف، ولا أن تنتهك شيئاً من حرماتهم، ماداموا يعلنون انتماءهم للإسلام، والتزامهم بأركانه. وقد تضافرت النصوص الشرعية بتأكيد هاتين الحقيقتين بشكل مطلق عام، وهما عضوية معلن الإسلام إلى المجتمع المسلم، وتمتع كل أبناء الأمة بحصانة الإسلام، ولا يؤثر اختلاف الآراء والمواقف على شيء من مقتضيات هاتين الحقيقتين.

ومن النصوص التي تقرر الحقيقة الأولى، قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقُولُوا لِمَن أَلقَى إِلَيكُمُ السَّلاَمَ لَستَ مُؤمِنًا تَبتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنيَا ﴾. فالآية الكريمة نص صريح في النهي عن التشكيك في إسلام من أعلن إسلامه، ولو كانت هناك قرائن تستدعي الشك، كظروف الحرب، وكونه قد أظهر الإسلام لمجرد السلامة والنجاة.

والأحاديث الواردة في شأن نزول الآية الكريمة، تؤكد هذا الأمر، ومنها ما أورده البخاري عن أسامة بن زيد بن حارثة  قال: بعثنا رسول الله إلى الحَرقَة من جُهينة ـ قبيلة من القبائل ـ قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكفّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي ، فقال لي: «يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟» قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً، قال : «أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟» قال: فما زال يكررّها عليّ، حتى تمنّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. وفي صحيح البخاري أيضاً عن المقداد بن عمرو الكندي، حليف بني زهرة، وكان شهد بدراً، مع النبي ، أنه قال: يا رسول الله إن لقيت كافراً فاقتتلنا، فضرب يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ بشجرة وقال: أسلمت لله، أقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله : «لا تقتله». قال: يا رسول الله، فإنه طرح إحدى يدّي، ثم قال ذلك بعد ما قطعها، أقتله؟ قال : «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال». وفي تفسير الآية الكريمة يقول ابن عاشور محمد الطاهر: وقد دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطرح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سدّه، وكما يَتهم المتهمُ غيره فللغير أن يتهم من اتهمه، وبذلك ترتفع الثقة، وانظر معاملة النبي المنافقين معاملة المسلمين.

وقال الشيخ محمد جواد مغنية في تفسيره: إن كل من نطق بكلمة الإسلام، وقال أنا مسلم، فحكمه حكم المسلمين من حيث الزواج والإرث، وما إلى ذلك من الأحكام التي تترتب على مجرد إظهار الإسلام، لا على نفس الإسلام حقيقة وواقعاً

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)