بصمات الانحراف على بني إسرائيل
لقد فضل الله تعالى بني إسرائيل على العالمين، لأن فيهم أنبياء بني إسرائيل، فوجود النبوة هو العمود الفقري للتفضيل وليس وجود الشعب، قال تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ*وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ*وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (1) قال المفسرون: قوله: (وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) فالعالم هو الجماعة من الناس. كعالم العرب وعالم العجم وعالم الروم. ومعنى تفضيلهم على العالمين، تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم. لما أن الهداية الخاصة الإلهية أخذتهم بلا واسطة. وأما غيرهم من الناس فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم. ويمكن أن يكون المراد. تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الإلهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس. سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم. فإن الهداية الإلهية من غير واسطة. نعمة يتقدم بها. تلبس بها على من لم يتلبس.
وقد شملت المذكورين من الأنبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.
فالمجتمع الحاصل من الأنبياء الملتف حولهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهي (2).
فالذين حول دائرة النبوة، مهديون إلى صراط مستقيم وفي أمن إلهي من خطرات السير وعثرات الطريق. أما الذين يسيرون على طريق يفرقون فيه بين رسل الله، فيۆمنون ببعض ويكفرون ببعض، أو يفرقون فيه بين أحكام الله وشرائعه، فيۆخذ فيه ببعض ويترك بعض، أو يركبون الطرق التي لا تضمن سعادة حياة المجتمع الإنساني، فهذه الطرق هي الطرق التي لا مرضاة فيها لله سبحانه، لأن أصحابها انحرفوا عن دائرة الأنبياء التي هي شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق الأهواء. فبني إسرائيل فضلهم الله على العالمين لأنهم الأرضية لأنبياء بني إسرائيل. فبدون الأنبياء ما ذكر اسم بني إسرائيل. وبني إسرائيل بدون الدين الحق. لا قيمة لهم ولا وزن.
ولذا نرى أنهم عندما طالبوا موسى بأن يجعل لهم آلهة من دون الله، ردهم عليه السلام إلى دائرة التفضيل التي لا تستند إلا على الدين الحق. يقول تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ*إِنَّ هَۆُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ*وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ....) (3) الآية قال المفسرون: كانت نفوسهم قد تأثرت بالعبادات المصرية. لذلك كانوا يتصورون أن الله سبحانه جسم من الأجسام! وكلما كان موسى عليه السلام يقرب لهم الحق من أذهانهم حولوه إلى أشكال وتماثيل.
لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم، فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة يعكفون عليها! فقال: كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا وهو غير الله ربكم، وإذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة. فقالوا: فكيف نعبده ولا نراه. ولا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده - كما يقول عبدة الأصنام - فقال: اعبدوه بما تعرفونه من صفته. فإنه فضلكم جملي سائر الأمم بآياته الباهرة ودينه الحق. وإنجائكم من فرعون وعمله.
لقد قطع بنو إسرائيل شوطا طويلا في عالم الانحراف. فحرفوا الكلم عن مواضعه. وكفروا بآيات الله. وقتلوا الأنبياء بغير حق. وقالوا قلوبنا غلف. وبعد هذا يقولون. إن الله فضلهم على العالمين!
فكما ترى. دفعهم موسى عليه السلام بألطف بيان وأوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للأذهان الضعيفة التعقل (4) لقد ردهم عليه السلام إليه بصفته رسول الله الذي على يديه شاهدوا المعجزات وبصفته أعلم الناس بدين الله الحق لأن الله فضله على العالمين، وبردهم إليه أد خلهم في دائرة التفضيل. وهم داخل هذه الدائرة ما داموا في ظلال الأنبياء.
فإذا كذبوا الأنبياء أو قتلوهم، فلا مكان لهم على الصراط المستقيم ولو رفعوا آلاف الرايات التي تحمل في ظاهرها رموز الصراط المستقيم، وبني إسرائيل تاجروا بالاسم على امتداد فترة طويلة من تاريخهم، وذلك بعد أن قفزوا بعيدا خارج دائرة الأنبياء. لقد تمردوا على موسى وهارون عليهما السلام. يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُۆْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) (5) قال المفسرون: أي لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة (6) ولم يقف الأمر عند موسى، بل تمردوا على جميع أنبياء الشجرة الإسرائيلية، حتى لعنهم داوود وعيسى ابن مريم عليهم السلام. يقول تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ*كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (7) قال المفسرون: إخبار بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، وفيه تعريض لهۆلاء الذين كفرهم الله في هذه الآيات. بأنهم ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم. وذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم واستمرارهم على الاعتداء.
لقد قطع بنو إسرائيل شوطا طويلا في عالم الانحراف. فحرفوا الكلم عن مواضعه. وكفروا بآيات الله. وقتلوا الأنبياء بغير حق. وقالوا قلوبنا غلف. وبعد هذا يقولون. إن الله فضلهم على العالمين! إن الشذوذ الذي دق قوم نوح أوتاده انتهى آخر الأمر إلى سلة بني إسرائيل! بمعنى أن الانحراف الذي وضعه قوم نوح، ضرب الله أصحابه بالغرق ليكونوا عبرة لمن يأتي بعدهم.. أما الانحراف نفسه فإن طرحه على الأجيال في كل زمان، مهمة شيطانية.. فالشيطان يلتقط الانحراف بعد التجربة الإنسانية الأولى. ثم يزينه بما يستقيم مع جيل آخر. وبعد انتهاء الجيل يقوم بتعديل الانحراف بعد التجربة الإنسانية الثانية. ليلقيه على جيل ثالث. وهكذا.
فمن كان له عبرة في السلف وتذكر ضربات الطوفان والرياح والصيحة وغير ذلك.. ابتعد بفطرته النقية عن مصادر الشذوذ الملون والانحراف المغلف بأغلفة براقة! أما الذين تربعت عبادة العجول على عقولهم، فإن في سلالهم تتجمع جميع الانحرافات ابتداء من قابيل قاتل أخيه وانتهاء بآخر انحراف وآخر شذوذ. وبنو إسرائيل استحوذوا على جميع الانحرافات ثم قاموا بنشرها على صفحة العالم للصد عن سبيل الله، معتمدين في ذلك على أديان اخترقوها وقاموا بتوجيهها نحو أهدافهم وأيضا على منظمات وجمعيات تحمل لافتات براقة ظاهرها الرحمة والعدل وباطنها العذاب الأليم.
المصادر:
1- سورة المائدة، الآيتان: 24 - 25.
2- سورة الأنعام، الآيات: 83 - 88.
3- الميزان: 243 / 7.
4- سورة الأعراف، الآيات: 138 - 141.
5- الميزان: 235 / 8.
6- سورة الصف، الآية: 5.
7- ابن كثير: 359 / 4. سورة المائدة، الآيات: 78 - 79.
الفرق بين التفسير والتاويل
جعل القيمومة للرجل (1)
كيف يتقبل القرآن التفسير؟