التشيّع إتجاه فكري وسياسي
الحقيقة أن التشيع لم يكن ـ حتّى في بدايته التأريخية ـ اتجاهاً سياسياً بمقدار ما هو اتجاه فكري في فهم الإسلام عموماً.
والتشيع في نهايته كما هو في بدايته، وفي حاضره كما هو في ماضيه، يعني الولاء الفكري والسياسي لأهل البيت، والايمان بزعامتهم في المجالين.
التشيع هو مذهب متكامل ذو اطروحة متميّزة في فهم الإسلام، وهكذا كان منذ بدايته التأريخية وحتّى المرحلة المعاصرة.
ومنذ ظهر التشيع كان يحمل هذا المحتوى وهذا المدلول.
ورغم انّ الجانب السياسي فيه كان هو البارز في الأعصار الأولى للتشيع من الامام علي (ع) ـ وحتّى الامام الحسين (ع) الاّ ان ذلك لا يدلل على ان التشيع لا يتجاوز القضية السياسية، ولا يحمل اصول المدرسة الفكرية.
انّ طبيعة المشكلة التي كان يعانيها الشيعة يومذاك هي التي أدت إلى هذه الظاهرة: ظاهرة بروز الجانب السياسي وتغطيته على الجانب الفكري فالشيعة كانا يواجهون مشكلة ابتعاد الحكم عنهم واستلاب السلطة من أيديهم، وفي رأي الشيعة تعتبر هذه القضية بالذات من أهم ما يتعين توجيه إهتمامهم إليه. ولذا فأنهم في الوقت الذي دعوا إلى الامام علي (ع) سياسياً آمنوا بزعامته وزعامة أهل البيت (ع) عموماً في المجال الفكري ودعوا إليها أيضاً.
غير ان المرحلة لمّا لم تشهد ظهور مدارس فكرية مختلفة، لم يكن هناك من المبررات ما يدعو لظهور الشيعة بشكل تكتل مدرسي مستقل.
ومن هنا كان الجانب السياسي للقضية هو البارز.
كما انّ رجال الشيعة الاقدمين أمثال أبي ذر، وسلمان، وعمّار، كانوا هم طليعة صحابة الرسول (ص) والمنقطعين إليه، وهم لذلك على مستوى كبير من اللياقة والكفاءة العلمية مما يساعد على ظهور الارتباط السياسي اكثر من ظهور الارتباط العلمي بالامام علي (ع).
ورغم كل ذلك يبدو للملاحظ تأريخياً وجود صلات علمية خاصة بين علي (ع) وشيعته، كما يلاحظ وجود وحدة فكرية متميّزة لرجال الشيعة.
الحركة التكاملية في المذهب الشيعي:
وأما بصدد السۆال الثاني عن التأخر الزمني لظهور بعض الأفكار في المذهب الشيعي ففي البداية لابدّ من التفرقة بين ظاهرتين:
ظاهرة تمذهب الحركة.
وظاهرة تكامل المذهب.
في الظاهرة الاولى نفترض انّا نواجه حركة سياسية وذات أهداف وأصول لا تتجاوز الأفق السياسي، لكن هذه الحركة وفي ظل ظروف معيّنة تتضخم وتنمو على مرّ التأريخ. مستعيرة افكار وتصورات غيرها، ومتجاوزة لأفقها السياسي، وتشكّل من خلال مجموع تلك الاستعارات والاضافات مذهباً في الفكر والسياسة والقانون والاجتماع...
وهنا تنقلب الحركة السياسية إلى مذهب شمولي مستوعب.
وقد شهد التأريخ نماذج من هذه الحركات، وقد تكون حركة الخوارج خير مثال لهذه الظاهرة فلم تكن حركة الخوارج في بدايتها اكثر من حركة سياسية تنادي بالخروج على الامام علي (ع).
غير أن هذه الحركة بدأت بالتدريج ترسم تفسها ضمن صيغ فكرية، والتزامات فقهية، ميزتها عن سائر المدارس المعاصرة.
فالحركة السياسية تمذهبت، بينما هي في الأصل سياسية خالصة. أما في الظاهرة الثانية فنفترض أنّا نواجه منذ البداية مذهباً يعتمد اصولا معينة تميّزه عن غيره، وعبر التأريخ وحسب الحاجات، تتوالد الأصول، وتجيب على كلّ الأسئلة المطروحة، وتملأ كافة الجوانب وهنا سوف يتسع المذهب فكرياً بالطبع وحول كل سۆال سيكون جواباً، وفي كل مسألة له رأى، الاّ انّه ليس شيءٌ من الاجابات والآراء مستورداً ومستعاراً. وإنّما متولداً عن الاصول الفكرية للمذهب ومنسجماً معها.
إذن فالمذهب هنا يتكامل، ويتشعّب ويبني اطاره التفصيلي تدريجياً. والحقيقة انّ هذه ظاهرة طبيعية وحتمية لكل مذهب.
والتدرّج هنا في الأفكار والتصوّرات والاجابات على الاسئلة المطروحة في كل مرحلة، هذا التدرّج لا يخلّ بوحدة المذهب، واعتباره مدرسة فكرية متناسقة ومتماسكة.
وعلى هذا الضوء يجب أن ندرس التشيع.
فهل هو حركة سياسيّة تمذهبت؟
أو أنه مذهب تكامل حسب حاجات كل مرحلة مرحلة من تأريخه، كما هو ظاهرة طبيعية وحتمية لكل مذهب، حتّى الإسلام نفسه؟
الشيء الذي يصح هو ذاك...
فمنذ كان التشيع، ومنذ ولد، كان يحمل اصوله الفكرية المتميّزة.
فهو يعتمد على قاعدة واحدة ميّزته عن سائر المذاهب، وهي امامة أهل البيت (ع)، واعتبارهم المصدر الأكمل والأتم في أخذ معالم الشريعة وتصوراتها، ومن هذه القاعدة تفرعت كل التفاصيل التي احتواها المذهب الشيعي فيما بعد.
ومعنى ذلك ان المحتوى التفصيلي للمذهب لم يكن مجموعة استعارات وزوائد وردود أفعال نفسية، غير منسّقة في وحدة مذهبية متكاملة، بل الحقيقة ان المحتوى التفصيلي للمذهب إنّما هو امتدادات وتفريعات عن القاعدة الأساس وهي امامة أهل البيت (ع).
فليس التشيع إذن اتجاهاً سياسياً فحسب.
كما ليس حركة سياسية تمذهبت تأريخياً.
وإنّما هو مذهب متكامل ذو اطروحة متميّزة في فهم الإسلام، وهكذا كان منذ بدايته التأريخية وحتّى المرحلة المعاصرة.