التعارف في المفهوم القرآني
الآية التي تتحدث عن تعارف المجموعات البشرية لها دلالات كبرى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
الخطابُ للناس جميعًا يحمل دلالة عدم اختصاصه بجماعة دينية أو قومية معينة.
وخَلقُ البشر من ذكر وأنثى.. للتعارف، له دلالة عدم تفوّق جنس على جنس، وضرورة أن يكون بين الجنسين تعارف بالمعنى الذي سنذكره. وهو تعارف بين مخلوقين يختلفان في كثير من الأمور،لكنه اختلاف يۆدي إلى الكمال حين يكون بينهما تعارف.
وجَعلُ البشر شعوبًا وقبائل إشارة أيضًا إلى تعدّدية في الجنس البشري، واختلاف بينهم بسبب البيئة والمجتمع والتاريخ والعادات والتقاليد والأذواق.. لكنه اختلاف يۆدي أيضًا إلى كمال، إن كان بينهم تعارف.
ثم يأتي ذكر سبب هذا التنوع.. «لتعارفوا». والتعارف ليس أن تعرف اسمى وأعرف اسمك.. إنه تبادل معرفي بين البشر.. وهذا التبادل المعرفي يۆدّي إلى إبداع ونماء وحركة كمال.
ثم إنّ أكرم الناس عند الله أتقاه..
والتقوى كما يعرّفها المرحوم محمود شلتوت تلتقي مع هذا الفهم الحضاري للآية حيث يقول:
أما تقوى اللّه تعالى، فهي ترفع في معناها العام إلى اتقاء الإنسان كل ما يضرّه في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والكمال الممكن في الدنيا والآخرة. والتقوى ليست خاصة بنوع من الطاعات، ولا بشيء من المظاهر، وإنما هي كما قلنا، اتقاء الإنسان كل ما يضرّه في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين الكمال الممكن. ومن ثمرات التقوى حصول الفرقان: (ما يفرّق به المرء بين الخير والشرّ والضارّ والنافع في هذه الحياة). فالعلم الصحيح، والقوّة، والعمل النافع، والخُلُق الكريم، وما إلى ذلك هو من آثار التقوى، والتقوى هي الشجرة، والفرقان هو الثمرة» (1)
نعود إلى دور التعارف والإبداع فنقول: إن لنا في تاريخنا نماذج من تعارف أدّى إلى إبداع وازدهار. حدث ذلك منذ أن تشرفت إيران بالإسلام، فانبثق عن ذلك في السنوات الأولى التي أعقبت الفتح تعارف بين الإيرانيين والعرب.. وانبثق على أثر ذلك إبداع علمي هائل في البصرة والكوفة، ثم ازدهر في بغداد، وانتشر هذا الازدهار في ربوع العالم الإسلامي من الأندلس غربًا حتى بلاد ماوراء النهر شرقًا.
وهنا نشير إلى مسائل ترتبط بثقافة التعارف. منها: ضرورة تعليم أبناء الأمة «أن يستمعوا». الاستماع أساس مهم للتعارف. وهل هو مفقود في عالمنا الإسلامي؟ نعم إلى حدّ كبير.
انظر إلى الحوارات التي تدور في الفضائيات، ليس فيها غالبًا استماع، بل كلا الطرفين يتكلمان!! يتكلّم الأول بلسانه، والثاني يتكلّم مع نفسه ليردّ على صاحبه.. الاثنان يتكلّمان.. ليس ثمة مستمع. وهذه الحالة سارية في تعاملنا على مستوى واسع. رغبتنا في الردّ والإفحام والإلجام والإسكات تفوق بكثير رغبتنا في الاستماع.
والسبب هو وجود طاغوت الذاتية في نفوسنا، لم نتجه إلى الله بل نتجه إلى طاغوت ذاتياتنا. الطاغوت يمنعنا من الاستماع، ويمنعنا بالتالي من انتخاب الطريق الصحيح. أمعن النظر في قوله تعالى:( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا، وَأَنَابُوا إلى اللَّهِ، لَهُمُ الْبُشْرَى)
وماهي البشرى؟
( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).
والآية الكريمة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق في دلالتها على أهمية «الاستماع». والاستماع هو الشرط اللازم للتعارف.
وأشير أيضا في هذا المجال إلى ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من حواجز وسدود تقف أمام هذا التعارف.
لقد كان عالمنا الإسلامي منذ أكثر من 12 قرنًا قرية صغيرة، يتم فيها التبادل المعرفي بين أرجائه رغم بدائية الاتصالات والمواصلات. واليوم ونحن في عصر مايسمى ثورة السرعة والاتصالات لا يعرف بعضنا بعضًا، بل ما يحمله بعضنا عن الآخر من معلومات مستند إلى ما يضخّه أعداء الأمة في أدمغتنا ونفوسنا. وهذا هو سبب تكريس الانفصال اليوم بين المذاهب والقوميات والشعوب والقبائل في عالمنا الإسلامي.
عدم قدرتنا على التواصل بسبب غياب ثقافة الاستماع، وقيام الحواجز والسدود، يحول دون تحقق «التعارف»، وبالتالي يحول دون الإبداع.
ولذلك فإن المهتمين بتفجير طاقات الإبداع في أمتنا ينبغي أن يعملوا على إحلال التعارف بين شعوب منظومتنا الإسلامية، على مستوى الشعوب والعلماء والمثقفين والفنانين والجامعيين والإعلاميين، لمواجهة تحدّي ضمور روح الإبداع في الأمة.
المصدر:
1- تفسير القرآن الكريم/ محمد شلتوت ــ 571 .
حبّ الله وحبّ الدنيا لا يجتمعان
عبادة المحبّين
الإخلاص ثمرة الحب