• عدد المراجعات :
  • 4354
  • 1/14/2014
  • تاريخ :

استغفار الائمة والعصمة

امام صادق

نجد كثيراً ما يستغفر الأئمّة ربّهم ويطلبون منه العفو، فكيف ينسجم ذلك مع القول بعصمتهم (عليهم السلام) ؟وبعبارة أُخرى مع أنّنا نذهب إلى عصمة الأئمّة (عليهم السلام) وانّهم منزّهون من الذنب والعصيان والخطأ والخلاف في نفس الوقت نجد في بعض الأدعية الصادرة عنهم يطلبون ربّهم العفو والمغفرة.*

في الأُمور الاجتماعية والأخلاقية والعلمية والتربوية والدينية لا يمكن أن يكون المرتقب والمرجو من جميع الناس باختلاف أنواعهم وطبقاتهم أمراً واحداً.

والجواب: لقد لفت هذا الإشكال انتباه المفكّرين والمسلمين منذ القديم، وأجابوا عنه بإجابات متعدّدة، ولعلّ حقيقة هذه الإجابات تعود إلى أمر واحد وهو: أنّ الذنب والمعصية أُمور نسبية لا أنّها من قبيل الذنوب المطلقة.

وتوضيح ذلك: في الأُمور الاجتماعية والأخلاقية والعلمية والتربوية والدينية لا يمكن أن يكون المرتقب والمرجو من جميع الناس باختلاف أنواعهم وطبقاتهم أمراً واحداً.

ونحن نكتفي من بين المئات من الأمثلة لبيان تلك الحقيقة بذكر مثال واحد وهو:

لو فرضنا انّ مجموعة من الناس سعت إلى القيام بعمل فيه خدمة اجتماعية كأن أرادوا بناء مستشفى لمعالجة الفقراء والمعوزين،فلو تبرع لمساعدة هذا المشروع أحد العمال ـ الذين هم الطبقات المتدنّية من ناحية الدخل اليومي ـ بمقدار قليل من المال فلا ريب أنّ هذا العمل يكون جديراً بالاحترام والثناء والتقدير والاعتزاز.

ولكن لو فرضنا أنّ الذي تبرع بهذا المقدار القليل أحد الأغنياء المترفين،فلا ريب حينئذ أنّ عمله هذا ليس فقط لا يستحقّ التقدير والثناء والاحترام، بل يعتبر في نظر العرف وصمة عار وسبباً لنفرة الناس وعدم رضاهم من ذلك العمل.

يعني أنّ نفس هذا العمل الذي اعتبر ـ بالنسبة إلى العامل ـ عملاً مستحسناً وجديراً بالتقدير يعتبر في نفس الوقت ـ بالنسبة إلى الغني ـ عملاً قبيحاً يستحق اللوم والتحقير من قبل العرف، وإن كان هذا الشخص الغني لم يرتكب من الناحية القانونية أي ذنب أو عمل محرم.

والدليل على هذين الموقفين هو ما قلناه في أوّل الصفحة من أنّ المتوقّع والمرجو من الناس في العلاقات الاجتماعية لم يكن بنسبة واحدة، أي أنّ المتوقّع من كلّ إنسان يرتبط بإمكاناته وقدراته العقلية والعلمية والإيمانية وباقي قدراته واستعداداته، إذ من الممكن أن يكون عمل ما بالنسبة إلى شخص يعدّ عين الأدب والخدمة والمحبة والعبادة، ولكن نفس ذلك العمل يعدّ بالنسبة إلى إنسان خر خلافاً للأدب، ومصداقاً للخيانة ومخالفة للمودة والحب وتقصيراً في العبودية والطاعة.

إذا عرفنا هذه الحقيقة لابدّ من البحث عن مكانة ومنزلة النبي الأكرم (صلى الله عليه وله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) وأن ننظر إلى أعمالهم مقارنة بالنسبة إلى المقام السامي والإمكانات والاستعدادات العالية التي يتحلّون بها.

إنّهم (عليهم السلام) يرتبطون ارتباطاً مباشراً بخالق العالم وموجده، وانّه يفيض عليهم العلم الإلهي وتشع على قلوبهم أنوار المعرفة بدرجة عالية جداً بحيث إنّهم يعلمون حقائق الكثير من الأشياء ممّا يخفى على غيرهم من الناس، وكذلك القول في إيمانهم وتقواهم وورعهم فإنّهم (عليهم السلام) بدرجة من الإيمان لا يمكن أن نتصوّرها في غيرهم، أي انّهم في المرتبة القصوى من الإيمان والتقوى.

والخلاصة: انّ هۆلاء الأئمّة (عليهم السلام) يتمتّعون بدرجة من القرب الإلهي و الاتّصال به سبحانه بحيث تُعد اللحظة اليسيرة من الغفلة عنه سبحانه بالنسبة إليهم نوعاً من الزلل والانحراف عنه سبحانه، فعلى هذا الأساس لا عجب إذا كانت بعض الأعمال مباحة لغيرهم أو مكروهة ، ولكنّها بالنسبة إليهم تُعدّ ذنباً لا ينبغي ارتكابه.

وعلى هذا تكون الذنوب ـ التي نسبت إلى أئمّة الدين (عليهم السلام) في بعض اليات، أو أنّهم ذكروها في أدعيتهم ومناجاتهم التي طلبوا من اللّه سبحانه فيها أن يمنّ عليهم بالمغفرة والتوبة ـ من هذا القبيل، بمعنى أنّ مقامهم المعنوي والعلمي والإيماني بدرجة من السمو والرفعة بحيث تعدّ الغفلة منهم ـ ولو كانت جزئية وفي بعض الأُمور الاعتيادية والطبيعية ـ ذنباً، وهذا ما عبّرت عنه الجملة المعروفة «حسنات الأبرار سيّئات المقربين».

إنّ فيلسوف الشيعة الكبير الخواجة نصير الدين الطوسي قد أوضح في أحد كتبه الإجابة السابقة بالطريقة التالية:

«كلّما اقترف الإنسان عملاً محرماً أو ترك أمراً واجباً فانّه يُعدّ عاصياً ولابدّ له من التوبة والاستغفار، وبالطبع هذا بالنسبة إلى الناس العاديّين، ولكن لو ترك أمراً مستحباً أو ارتكب فعلاً مكروهاً فهذا أيضاً يُعدّ مذنباً لابدّ له من التوبة والاستغفار، ولكن هذا النوع من الذنب والتوبة يتعلّق بالأفراد الذين يكونون معصومين من الذنب من النوع الأوّل. ولهذا فإنّ الذنب الذي نسب في القرن الكريم إلى بعض الأنبياء السابقين مثل: دم، موسى، يونس و... هو من الذنب من القسم الثاني لا الأوّل.

وكذلك كلّما التفت الإنسان إلى غير اللّه سبحانه واشتغل بالأُمور الدنيوية وغفل عنه سبحانه، فإنّ عمله هذا يُعدّ لدى أهل الحقيقة نوعاً من الذنب لابدّ لصاحبه من التوبة وطلب المغفرة منه تعالى.

وبهذا يتّضح أنّ ما يرد عن الرسول الأكرم وأئمّة الهدى من الأدعية التي يطلبون منها المغفرة ويعلنون فيها التوبة من الذنب، يُعدّ من الذنب من النوع الثالث لا النوعين الأوّل و الثاني».( [1])

ولا بأس بإتمام الجواب من الإشارة إلى كلام العالم الشيعي الكبير المرحوم «علي بن عيسى الأربلي» في المجلد الثالث من كتابه القيم «كشف الغمة في معرفة الأئمّة» عند الحديث عن حياة الإمام موسى بن جعفرعليمها السَّلام حيث قال:

فائدة سنية: كنت أرى الدعاء الذي كان يقوله (عليه السلام) في سجدة الشكر وهو «ربّ عصيتك بلساني...».

فكنت أفكر في معناه وأقول كيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة؟! وما اتّضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه فاجتمعت بالسيد السعيد النقيب رضي الدين أبي الحسن علي بن موسى بن طاووس العلوي رحمه اللّه، فذكرت له ذلك، فقال: إنّ الوزير السعيد مۆيد الدين العلقمي ـ رحمه اللّه تعالى ـ سألني عنه، فقلت: كان يقول هذا ليعلّم الناس.

ثمّ إنّي فكرت بعد ذلك فقلت هذا كان يقوله في سجدته في الليل وليس عنده من يعلّمه.

ثمّ إنّه سألني عنه السعيد الوزير مۆيد الدين محمد بن العلقمي رحمه اللّه فأخبرته بالسۆال الأوّل والذي قلت والذي أوردته عليه، وقلت: ما بقي إلاّ أن يكون يقوله على سبيل التواضع وما هذا معناه، فلم تقع منّي هذه الأقوال بموقع ولاحلّت من قلبي في موضع، ومات السيد رضي الدينرحمه اللّه فهداني اللّه إلى معناه ووفّقني على فحواه، فكان الوقوف عليه والعلم به وكشف حجابه بعد السنين المتطاولة والأحوال المحرمة والأدوار المكررة من كرامات الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) .

وتقريره: انّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) تكون أوقاتهم مشغولة باللّه تعالى وقلوبهم مملوءة به وخواطرهم متعلّقة بالملأ الأعلى وهم أبداً في المراقبة، كما قال (عليه السلام) :«اعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تره فإنّه يراك» فهم أبداً متوجّهون إليه ومقبلون بكلّهم عليه، فمتى انحطّوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدوّه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

وإلى هذا أشار (عليه السلام) بقوله:«إنّه ليران (ليغان) على قلبي وإنّي لاستغفر بالنهار سبعين مرة».

ولفظة السبعين إنّما هي لعدّ الاستغفار لا إلى الرين، وقوله: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» و نظيره إيضاحاً من لفظه ليكون أبلغ من التأويل، وعلى هذا فقس البواقي وكلّما يرد عليك من أمثالها( [2]). ( [3])

المصادر:

* الشيخ جعفر السبحاني

[1] . أوصاف الأشراف:17، باللغة الفارسية.

[2] . كشف الغمة:3/46ـ 48.

[3] . منشور جاويد:7/287ـ 291.

 


السر في بقاء التشيع

مبدأ التشيع وتاريخ نشأته

ظهور الشيعة وانتشارهم

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)