کلام الإمام الصادق (ع) في الطب
إن للإمام أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) من الكلمات الطبية الخالدة والآراء القيمة الحكيمة ما لو نظر بها وعمل عليها لصلحت أن تكون أسساً ثابتة عامة تقوم عليها دعائم الطب وأركان حفظ الصحة في كل عصر ومصر ولكل جيل من الأجيال.
فلعمري أنها الكلم القصار التي قصرت عن فهم كنه مراميها نطس الاطباء وفحول العلماء اللهم إلا بعد مرور العصور وتعاقب الأحوال وتقدم العقل البشري وكثرة التجارب العلمية والعملية الواسعة .
قال الإمام (عليه السلام) : كان الطبيب يسمى المعالج ، فقال موسى بن عمران (عليه السلام) : يارب ممن الداء ؟ قال : مني ، فقال موسى : وممن الدواء قال : مني ، قال موسى : فما يصنع الناس بالمعالج ؟ قال تعالى : يطيب بذلك أنفسهم ، فسمي المعالج لذلك طبيباً (1) .
وقال (عليه السلام) أجتنب الدواء ما احتمل بدنك الداء (2).
*الغرض من ذلك هو إرجاع إصلاح البدن إلى الطبيعة البدنية دون أن تعارضها الادوية التي ربما أحدثت مضاعفات أخرى غير المرض.
قال (عليه السلام) : من ظهرت صحته على سقمه فعالج نفسه بشيء فمات فأنا إلى الله منه بريء . وفي لفظ ، فقد أعان على نفسه (3) .
* قد ورد هذا المعنى في غير واحد من أحاديث أهل البيت ، والمراد سحق الأدواء بالطبيعة مهما تمكنت منه وعدم تعديل المزاج بالعلاج . قال الإمام الرضا (عليه السلام) إن معالجة البدن كتعمير الدار وإصلاحه فان قليله يفضي إلى كثيره وبعبارة أخرى ان المرض هو تخلف عن القوانين الطبيعية والدواء مما يظهر هذا التخلف والانحراف وهذان الانحرافان إذا إجتمعا على البدن أبعداه عن الصحة السريعة .
وقال (عليه السلام) : غسل الاناء وكسح الفناء مجلبة للرزق (4).
*الظاهر من هذا الحديث هو الامر بالنظافة والحث على الاهتمام بها فانها من أركان الصحة والراحة وهما من النعم والرزق الذي تجلبه هذه النظافة إذ ليس الرزق هو تحصيل المال فقط كما نتصوره ، والكسح هو الكنس والفناء ساحة الدار .
وقال (عليه السلام) : اقلل من شرب الماء فانه يمد كل داء (5) .
*من المسلم طباً أن إكثار شرب الماء لا سيما على الغذاء وبعضهم يقول حتى في اثناء الأكل مما يبطي الهضم في المعدة بمعنى أنه يضعف عمل إفرازات الغدد المعدية الهاضمة ، فاذا إختل الهضم أختل التغذي وإذا إختل التغذي لم يستفد البدن منه فيضعف ويصبح مستعداً لقبول أي عارض من عوارض المرض ، وهذا هو مراد الإمام (عليه السلام) بقوله : يمد كل داء .
وقال (عليه السلام) : ينبغي للشيخ الكبير أن لاينام إلا وجوفه ممتليء من الطعام فانه أهدأ لنومه واطيب لنكهته (6) .
*من المشهور أن تقليل الطعام ليلاً عند النوم من صالح المعدة ومما يهديء الأعصاب ويريح النائم أما الشيخ الكبير فانه لما كان لا يمكنه أن يأكل كثيراً بل لايستطيع إلا المايعات والخفيف من الاغذية كان هذا القليل المايع يهضم عنده بمدة قليلة لذلك فهو يحتاج إلى أن يأكل هذا القليل بمدد متقاربة متعددة وعليه فاذا أكل الشيخ القليل ثم هضم في أثناء النوم وخلت معدته ظهر عليه الضعف فلا يستقر في نومته ولأجل ذلك كان عليه أن لاينام إلا وهو ممتليء الجوف ليهدأ نومه وتطيب نكهته .
وقال (عليه السلام) لعنوان البصري : إياك وأن تأكل مالا تشتهيه ، فانه يورث الحماقة والبله ، ولاتأكل إلاعند الجوع . وإذا أكلت فكل حلالاً وسم بالله واذكر حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، فاذا كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه (7) .
*الاشتهاء هو الجوع أي طلب البدن للطعام عن حاجة ، او هو الرغبة والميل إلى الأكل ، والمراد من قوله (عليه السلام) مالا تشتهيه أي مالا تميل إليه ولاترغب به فان ماأكل خلاف الرغبة أورث في البدن عكس المطلوب ومنها النفرة والانقلاب والمزاج كما ينفر من الدواء البشع ، وبذلك يختل نظام البدن فلا يحصل من الغذاء ذلك الوقود اللازم وهنا تضعف الاعصاب وتضطرب وقد يسري هذا الضعف العصبي إلى الدماغ بالمداومة لأنه المنشأ للاعصاب فيحصل الخطر فيه وهو المشار إليه بقوله (عليه السلام) يورث الحماقة والبله ، وقد قال بعض الحكماء : ما أكلته وأنت تشتهيه فقد أكلته وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك أي أمرضك وأسقمك .
أما قوله (عليه السلام) : فكل حلالاً وسم بالله ، فذلك لأن وسائل الصحة وسلامة الأبدان لو تأملتها تجدها غير منحصرة في الماديات فقط بل أن للمعنويات والروحيات اليد الطولى في ذلك وأهمها الاطمينان النفسي والسكون القلبي اللذان بهما تستقر النفوس وترتاح القلوب ، ولما كان الغذاء الحلال مما يرضي النفس والروح ويملاً القلب إطميناناً وسكوناً كان للقمة الحلال والتسمية التي تنهض العقيدة والايمان أهمية كبرى في نشاط البدن وإرتياحه بخلاف الحرام الذي يضطرب منه القلب ويفلق الروح ، لذلك عالج الامام (عليه السلام) أو بالأحرى حفظ الصحة بهذه الوصية الروحية وإنهاض العقيدة الساكنة .
أما قول النبي (صلى الله عليه وآله) : ما ملأ آدمي وعاء شراً إلخ . فانه أمر واضح لا يحتاج إلى شرح وهو كقوله (صلى الله عليه وآله) المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء لانها إذا ملئت ثقل عملها وإذا ثقل العمل تصاعدت الابخرة والغازات إلى الأعلى أي إلى الدماغ فوقف الفكر ، لذلك يمنع الاطباء المطالعة بعد الطعام بلا فاصلة ثم يعتري الدماغ الفتور والميل إلى النوم والدعة كما قد يحدث لممتليء المعدة عند النوم رۆيا مخيفة مزعجة وموحشة وقد تحصل له خيالات فاسدة وأفكار مشوشة ، وهذا هو ما أراده الامام (عليه السلام) بقوله الحمق والبلاهة أيضاً لذلك فقد أمر النبي (صلى الله عليه وآله) أن تقسم المعدة إلى ثلاثة أقسام ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للتنفس ، وعلى هذا قال بعض الأطباء إن ما تأكله لا تستفيد إلاّ من ثلثه أما الثلثان فهما من فائدة الطبيب المعالج لك بعد هذه الأكلة فتأمل وفكر .
وقال (عليه السلام) : كل داء من التخمة إلا الحمى ، فانها ترد وروداً (8) .
* لقد ثبت طباً أن الحميات مطلقاً لاتنشاً إلا عن جراثيم خاصة وميكروبات مرضية معينة قد إكتشفها العلم الحديث خلافاً لما كان يعتقده القدماء من أنها لا تحدث إلا عن فساد الأخلاط الأربعة . ولكن علماء العصرين متفقان على أن إمتلاء المعدة والتخمة من أهم ما تحدث الأدواء المختلفة والاسقام المتعددة لأن المعدة بودقة وقود البدن ومبعث الغذاء الذي به يكون قوام الجسم والروح فاذا فسدت المعدة بالتخمة ضعفاً وأصبحا قابلين لكل عارض ممرض يعتريهما روحيا كان أو بدنيا ، ولذلك قال الامام (عليه السلام) : كل داء من التخمة بخلاف الحمى التي ترد وروداً أي تعرض على البدن من الخارج لأن الجراثيم تدخل البدن من الهواء ومن الماء ومن كلما يرد إلى البدن من حاملات الميكروب .
وقال (عليه السلام) : إن عامة هذه الارواح ( جمع ريح ) من المرة الغالبة أو الدم المحترق أو البلغم الغالب ، فليشغل الرجل بمراعاة نفسه ، قبل أن يغلب عليه شيء من هذه الطبائع فيهلكه (9).
*إن بدن الانسان مركب من جامد ونصف جامد ومايع ، فالجامد كالعظام ونصف الجامد كالغضاريف والمايعات كالأخلاط الاربعة وهي الدم والصفراء والبلغم والسوداء فالدم في العروق والصفراء في الكبد والمرارة والبلغم في العروق اللمفاوية والسوداء وهي الذرات الجامدة المختلطة مع الدم والمحترقة تماماً ومحلها الطحال وهذا على رأي بقراط الذي يسند كل الامراض إلى فساد الاخلاط ومنها تتولد الأرواح المۆلمة ولكن الطب الحديث يقول إن الغذاء إذا إحترق أوجد حرارة في البدن وإذا نقص إحتراقه حدثت فيه رسوبات قد تنتشر في الاعضاء فتتولد منها أمراض مختلفة ، وهذا هو عين قول القتدماء مع تغيير في المصطلحات والألفاظ ولأجل لفاظ ولأجل هذا أوصى الامام (عليه السلام) بان يراعي الرجل نفسه فلا يسرف في الأكل ولا يخلط الأغذية ولا يستعمل المواد المحترقة الحادة والحريفة أو أي شيء يفسد الاخلاط فينقص الاحتراق ويحدث مالا تحمد عقباه بتغلب أحد تلك الاخلاط الفاسدة التي إصطلح عليها هنا ( بالطبائع ) فيتولد من ذلك ما يهلك أو ينهك وما إلى ذلك .
وقال (عليه السلام) : إن المشي للمريض نكس (10) .
*وفي هذا الحديث حث وتأكيد على الراحة المطلوبة لكل مريض لاسيما الناقه وعلى هذا جرى جل أطباء هذا العصر بل كلهم .
وقال (عليه السلام) : لو إقتصد الناس في المطعم لاستقامت أبدانهم (11) .
*المراد من الاقتصاد هنا هو الاعتدال في الأكل وعدم الاسراف فيه لا تقليل الأكل إلى حد يقل عن الواجب للتغذية نعم إن الشره والتنوع في الطعام يجمع المتناقضات والتضادات في أكلة واحدة أوكثرة الأكل إلى حد التخمة التي هي أم الامراض بل باب الموت المحتم فان كل ذلك خلاف الاقتصاد ليس للبدن معها إستقامة أو سلامة .
وقال (عليه السلام) : النوم راحة الجسد والنطق راحة الروح والسكوت راحة العقل (12) .
المصادر:
(1) البحار 14.
(2) الفصول المهمة .
(3) الفصول المهمة .
(4) كتاب الاثنى عشرية .
(5ـ6) كشف الأخطار .
(7) البحار ج 1 وفي الكنى والالقاب للقمي في ترجمة البصري .
(8) رواه البرقي في المحاسن .
(9) البحار ج 14ـ 546 .
(10) الكافي .
(11) الفصول المهمة .
(12) مجالس الصدوق .
مدرسة الإمام الصادق ( عليه السلام ) العلمية
مواقف الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع حكام الجور
زيارة الامام جعفر الصادق (عليه السلام)