الأفغاني رائد الاتجاهات الحديثة في تفسير القرآن
يتّفق الدارسون على أنّ السيّد جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني كان أوّل مَن دعا إلى إعادة النظر في مناهج التفسير القديمة ، ومهَّدَ للاتجاهات الحديثة في تفسير القرآن ؛ لأنّ مشروعه الإحيائي استند إلى القرآن كمرجعية يصدر عنها في دراسة واقع المسلمين ، والتبصّر بمشكلاته وأمراضه ، وفي تحديد الوسائل والأدوات اللازمة لتقويم هذا الواقع ، وبناء المقوّمات اللازمة لإيقاظه ونهوضه .
وكان جمال الدين أوّل مفكّر مسلم في العصر الحديث يۆكّد بصراحة أنّ السبيل الوحيد لنجاة المسلمين هو العمل بأحكام القرآن وتطبيقها في الحياة(1) ، ويرى أنّ بعث الاُمّة واستنهاضها لن يتحقّق من دون ( بعث القرآن ، وبعث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور , وشرحها على وجهها الثابت ، من حيث يأخذ بها إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة )(2) .
وقد تنبّه جمال الدين باكراً إلى العلّة التي أقعدتْ المسلمين عن صياغة تفسير للقرآن يوائم مستجدّات الزمان ويستجيب لرهانات العصر ؛ فصرّح أنّ هذه العلّة تكمن بتقديس التفاسير الكثيرة التي تراكمت حول النص القرآني ، عبر مختلف عصور الحضارة الإسلاميّة ، وتشبّعت بملابسات الزمان والمكان ، وعقيدة المفسّر ، ورۆيته المنبثقة من بيئته الخاصّة ، وما تمور به من أسئلة ومعارف لا تتجاوز الفضاء الداخلي للبيئة .
فحين يتعامل البعض مع رأي المفسّر كما يتعامل مع الوحي ، يتحوّل هذا الرأي إلى نصّ ثان يطمس النص القرآني ، ويحول دون استنطاقه واستيحاء دلالاته المتجدّدة التي لا تنضب أبداً ؛ فإنّ القرآن كما يقول الإمام علي (عليه السّلام) : ( بَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ ، وَعُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ ، وَمَنَاهِلُ لاَ يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ ) (3) .لقد حذّر جمال الدين بشدّة من الخلط بين النص القرآني ( وما تراكم عليه ، وتجمع حوله من آراء الرجال , واستنباطاتهم ونظرياتهم ) , ووضع حدّاً فاصلاً بين آراء الرجال هذه والنص القرآني ، وَبَلْوَرَ منهجاً واضحاً للتعاطي مع الثاني ( كَوَحْي ) , والأوّل الذي ( نستأنس به كرأي ) فحسب . من هنا يجب أنْ نميّز رأي المفسّر بدقّة ( ولا نحمله على أكفّنا مع القرآن )(4) .
ولم يتوقّف جمال الدين عند هذا الحد ، بل عمل على تطبيق منهجه هذا على الآيات الكريمة التي كان يستهلّ بها مقالاته في مجلّة ( العروة الوثقى ) ، والتي تعالج قضايا الاُمّة وهمومها ، كقضية التخلّف والانحطاط الحضاري ، وغلبة الاستعمار وهيمنته على ديار الإسلام ، والعجز النفسي وذبول العزيمة ، والانبهار وعقدة الحقارة حيال الآخر .
وحينما نطالع مجموعة أعداد العروة الوثقى يلوح لنا اُسلوب جديد في التفسير انتهجه جمال الدين ، لا نرى ما يماثله لدى من سبقه أو عاصره من المفسّرين ؛ ذلك أنّ جمال الدين سعى لاستلهام الرۆية السياسية والموقف من الأحداث من روح القرآن الكريم ، وهكذا كرّر هذه التجربة في كلّ مسألة اجتماعيّة أو اقتصادية أو ثقافية ، تناولها في مقالاته .
فقد تصدّرت مقالات جمال الدين في العروة الوثقى آيات قرآنية ، وتدلّت المفاهيم والرۆى المنبثة في كل مقال من معين الآية التي يستهلّه بها ، وما يتّصل بها من آيات تضيء مدلول تلك الآية ، فصار المقال تفسيراً باُسلوب مختلف للآية ، تفسيراً لا يتورّط في نقض وإبرام أقوال المفسّرين ، ولا يستغرق في متاهات لفظية لا تتّصل بالحياة ، ولا يفتعل مشاغل فكرية تبتعد عن هدف القرآن في هداية الإنسان ، وإنّما هو تفسير اجتماعي يقنّن موقف المواطن والاُمّة حيال القضايا الحياتية المتنوّعة ، ويصوغ رۆية سديدة من منظور القرآن .
فمثلاً افتتح مجلّة العروة الوثقى بقوله تعالى : ( … رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (5) ، وصدّر المقال الذي يليه بالآية الكريمة : ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) ، حين تناول ( ماضي الاُمّة وحاضرها وعلاج عللها )(6) ، وفي معرض حديثه عن ( انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك ) افتتح مقاله بالآية : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا … ) (7) ، وفي مقال ( رجال الدولة وبطانة الملوك ) بدأ بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً … ) (8) ، وأورد الآية :( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) في كلامه عن ( امتحان الله للمۆمنين ) (9) .
ولمّا بحث ( سنن الله في الأُمَم وتطبيقها على المسلمين ) جاء بالآية : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (10) ، وعندما بحث أثر الخوف في هزيمة الاُمّة وذوبانها ، تحت عنوان ( الجبن ) ، ذكر الآية :( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ … ) ، ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ … ) (11) ، وفي بيان موقف ( الاُمّة وسلطة الحاكم المستبد ) استوحى قوله تعالى : ( … وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (12) ، وعندما حاول إيقاد ( روح الأمل وطلب المجد ) لدى الاُمّة استلهم مادّته من : ( … إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ، ( … وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ) (13) .
هكذا دأب جمال الدين على استيحاء روح القرآن واستلهام معالجاته لمشكلات الاُمّة وأمراضها(14) ، فباشر بذلك تجربة رائدة في رسم اُصول ( التفسير الاجتماعي للقرآن ) ، وتدشين أسسه في خطابه النهضوي .
اعداد: سيد مرتضى محمدي
المصادر:
(1) جمال الدين الأفغاني : الأعمال الكاملة : تحقيق : د . محمّد عمارة ، بيروت ، المۆسّسة العربية للدراسات والنشر ، 1981م ، ج2 ، ص67 .
(2) عبد القادر المغربي : جمال الدين الأفغاني ، ذكريات وأحاديث : القاهرة ، دار المعارف ، 1948م ، ص27 .
(3) الإمام علي بن أبي طالب : نهج البلاغة : جَمَعَهُ : الشريف الرضي ، خطبة 198 ( في صفة القرآن ) ، فقرة 28 .
(4) عبد القادر المغربي : مصدر سابق : ص61 .
(5 ـ 13) جمال الدين الأفغاني ، ومحمّد عبده : العروة الوثقى : بيروت ، دار الكتاب العربي ، ص53 ، 70 ، 128 ، 152 ، 169 ، 182 ، 145 ، 120 .
(14) لاحظ الموارد الأخرى في : العروة الوثقى : الصفحات : 63 ، 79 ، 107 ، 155 ، 156 ، 162 ، 166 ، 337 .
شرائط التأويل الصحيح
معاني التاويل
الفرق بين التفسير والتاويل