روّاد الاتجاهات الحديثة في تقسير القران
استأنف تلميذُ السيّد جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني الشيخ محمّد عبده الامتداد بتجربة اُستاذه في اُسلوب التعامل مع تراث المفسّرين ، ومنهجه في الكشف عن المداليل الاجتماعيّة للذكر الحكيم ، وهو ما يتجلّى في رسالة سياسية بعث بها محمّد عبده إلى أحد أعضاء جمعية العروة الوثقى ، يكتب فيها : ( وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلاّ لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه ، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متّصله ، ثمّ اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه ، واحمل بنفسك على ما يُحمل عليه ، وضمّ إلى ذلك مطالعة السيرة النبوية ، واقفاً عند الصحيح المعقول ، حاجزاً عينَيك عن الضعيف والمبذول )(1) .
واقتفى التلميذُ عبده خُطى الاُستاذ في تفسيره ، و ( طبّق فيه منهج اُستاذه الأفغاني )(2) ، وتحدّث بصراحة في مقدّمة دروسه في التفسير التي قرّرها تلميذه السيّد محمّد رشيد رضا ، عن أنّ التفسير الذي يرمي إليه ( هو فهم الكتاب من حيث هو ، دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة )(3) ، وأوضح أنّ التفاسير السابقة ابتعد الكثير منها عن مقصد الكتاب الكريم ، عبر استغراقها في مباحث البلاغة والإعراب ، وتتبّع القصص ، وغريب القرآن ، والأحكام الشرعية ، وعلم الكلام ، والمواعظ والرقائق ، والإشارات الصوفية .
وأورد محمّد عبده تساۆلاً يتكرّر في عصره والعصر الذي تلاه ، ويتلخّص في قول البعض ، بأنّه ( لا حاجة إلى التفسير والنظر في القرآن ؛ لأنّ الأئمّة السابقين نظروا في الكتاب والسُنّة ، واستنبطوا الأحكام منهما ، فما علينا إلاّ أنْ ننظر في كتبهم ونستغني بها )(4) . ثمّ أجاب بصيغة استفهام استنكاري ، بأنّ هذا الزعم ( لو صحّ لكان طلب التفسير عبثاً ، يضيع به الوقت سُدىً ، وهو مخالف لإجماع الاُمّة من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى آخر واحد من المۆمنين ، ولا أدري كيف يخطر هذا على بال مسلم ؟! )(5) .
وشدّد على أنّ المخاطب في القرآن هم أفراد النوع الإنساني في كل زمان ، والقرآن أُنزل لهداية هذا النوع ، ( فهل يُعقل أنّه يرضى منّا بأنْ لا نفهم قولَه هذا ، ونكتفي بالنظر في قول ناظر نظر فيه ، لم يأتنا من الله وحي بوجوب اتّباعه ، لا جملة ولا تفصيلاً ؟! ) . وأردف هذا الاستفهام بنفي قال فيه : ( كلاّ ، إنّه يجب على كل واحد من الناس أنْ يفهم آيات الكتاب بقدر طاقته ، لا فرق بين عالم وجاهل )(6) .
وفي محاولات التفسير اللاحقة حرص المصلحون من علماء الدين على ترسيخ صِلَة الاُمّة بالقرآن ، وباشروا تجارب رائدة في التفسير ، اتّخذوا كتاب الله تعالى فيها محوراً لخطابهم الإصلاحي ، ووظّفوا تعاليمه في مقولاتهم ، واهتمّوا بإحياء مصطلحاته ومفهوماته ، وصرّح الكثير منهم بعجز التفاسير السابقة عن تلبية متطلبات الاُمّة المتنوّعة .
وحرصوا جميعاً على تدريس التفسير ، وتدوينه ببيان ينتفع به كلّ الناس ؛ لأنّهم وجدوا أنّ إحياء الاُمّة غير ممكن ما لم يستند إلى بعث القرآن ، وإشاعة تعاليمه وأفكاره ، فاقترنت دعواتهم باستلهام روح القرآن ، وفَهْم قضايا الاُمّة في ضوء توجيهاته على الدوام ، حتى إنّ المجاهد الشيخ عبد الحميد بن باديس ( آثر البدء بتفسيره درساً تسمعه الجماهير ، فتتعجّل من الاهتداء به ، ما يتعجّله المريض المُنْهَك من الدواء ، وما يتعجّله المسافر العجلان من الزاد )(7) ، وعكف عليه إلى أنْ ختمه في خمس وعشرين سنة ، فاحتفلتْ الجزائر احتفالاً بهيجاً عام 1357 هـ بمناسبة ختمه لتفسير القرآن .
وقد ضاق المستعمر الفرنسي ذرعاً بروح المقاومة والوعي الجديد الذي أَجّجتْه دروس بن باديس التفسيرية في الاُمّة ، وكان بن باديس قد تنبّأ بانفجار الثورة على المستعمر الغازي ، ( فعبّأ لها الجهود ، وأشار إلى جبال أوراس الحصينة ، وقال لأبنائه وطلاّبه : من هنا تبدأ الثورة .. وبايع بعضهم فرداً فرداً ، استعداد للتعبئة ولإعلان الجهاد الإسلامي والحرب ضد فرنسا ، ولكنّ المنيّة عاجَلَتْهُ )(8) .
وكان الشيخ أبو الأعلى المودودي يعمل على تفسير القرآن ، وهو في غمرة مهامّه في العمل في سبيل الله ، فأمضى ثلاثين عاماً من حياته في إعداد تفسيره ( تفهيم القرآن ) ، ولم تَثْنِهِ العوائق المتنوّعة كالسجن وملاحقة السلطة عن أداء هذه المهمّة(9) . وهكذا أمضى الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور خمسين عاماً كاملة في تأليف تفسيره ( التحرير والتنوير )(10) .
أمّا السيّد محمّد حسين الطباطبائي فقد أنفق ثماني عشرة سنة تقريباً في تدريس وتدوين تفسيره ( الميزان في تفسير القرآن )(11) .
ودشّن السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر حركته في مناهضة الاستبداد بسلسلة دروس في التفسير ألقاها على طلاّب الحوزة العلمية في النجف الأشرف , بدأها ببيان الثغرات المنهجية في الاتجاه التجزيئي السائد والمتوارث للتفسير ، وأوضح ( أنّ قروناً من الزمن متراكمة مرّت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي ، لم يحقّق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة ، وظلّ التفسير ثابتاً لا يتغيّر إلاّ قليلاً خلال تلك القرون على الرغم من ألوان التغيّر التي حفلتْ بها الحياة في مختلف الميادين )(34) .
وخلص الشهيد الصدر إلى ضرورة تبنّي اتجاه جديد في التفسير ، يتحرّر فيه التفسير من الحالة التكرارية ، التي أقعدتْه عن التطوّر والنمو ، ويخلّص النص القرآني من الآراء والأفكار المختلفة التي راكمها المفسّرون حول هذا النص ، فأبعدتْه عن الواقع .
اعداد: سيد مرتضى محمدي
المصادر:
(1) محمّد عبده : الأعمال الكاملة : دراسة وتحقيق : د . محمّد عمارة : بيروت ، المۆسسة العربية للدراسات والنشر ، ج1 : ص589 .
(2) المصدر السابق : ص28 .
(3) محمّد رشيد رضا : تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار : بيروت ، دار المعرفة ، ج1: ص17 .
(4 ـ 6) المصدر السابق : ص19 ـ 20 .
(7) محمّد البشير الإبراهيمي : ( خصائص التفسير الباديسي ) : تصدير لكتاب تفسير ابن باديس ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1995م ، ص20 .
(8) توفيق محمّد شاهين . ( تعريف بالإمام عبد الحميد بن باديس ) : نفس المعطيات السابقة ، ص 13 .
(9) أسعد جيلاني : أبو الأعلى المودودي : فكره ودعوته : ترجمة : د . سمير عبد الحميد إبراهيم : لاهور : 1978م ، ص234 .
(10) إسماعيل الحسني : نظرية المقاصد عند الإمام محمّد الطاهر بن عاشور : فيرجينيا ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1995م ، ص91 .
(11) السيد محمّد حسين الطهراني : مهرتابان ( بالفارسية ) : ص41 .
(12) السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر : المدرسة القرآنية : بيروت ، دار التعارف للمطبوعات ، 1981م ، ص18 .
شرائط التأويل الصحيح
معاني التاويل
الفرق بين التفسير والتاويل