قيمة السكوت
روي عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" أنه قال: (السكوت ذهب والكلام فضة).
لكل من الذهب والفضة قيمة، ولكن الذهب أغلى من الفضة كما هو معلوم، وقد لوحظ ذلك في الأحكام الشرعية أيضاً، فدية المرء المسلم -مثلاً-هي ألف دينار من الذهب أو عشرة آلاف درهم فضة.
هذا الحديث الشريف يجعل النسبة بين الكلام والسكوت كالنسبة بين الفضة والذهب، فكما أن للفضة قيمة وللذهب قيمة ولكن قيمة الذهب أغلى فكذلك يمكن مقارنة السكوت إلى الكلام.
تارة يكون الكلام واجباً، ولا شك أن السكوت غير مفضّل عليه في مثل هذه الحالة، ومثاله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتارة يكون السكوت واجباً ويأثم الإنسان بتركه، كما لو أدى الكلام إلى قتل النفس المحترمة، وفي مثل هذه الحالة يكون السكوت مفضلاً، بل لا يجوز الكلام. ومن الواضح أن الحديث الشريف غير ناظر إلى مثل هذه الموارد، بل هو يقرر حقيقة أخلاقية مفادها أن السكوت بنفسه -إذا لم تكن هناك مرجحات للكلام-خير وأغلى.
ويمكن توضيح الأمر بمثال مادي:
لو قلنا إن الأرز أغلى من القمح فإن ذلك لا يعني أنه كذلك في كل الظروف والأحوال، وبالنسبة لكلّ الأشخاص، ولكنا مع ذلك نقول: إن الأرز أغلى من القمح لأن هذا هو الغالب.
إذن المقصود من الحديث الشريف أن السكوت النافع أغلى من الكلام ، ما لم يكن هناك مرجّح لأحدهما على الآخر.
روي أيضاً: (إذا رأيتم المۆمن صموتاً فادنوا منه، فإنه يُلقّى الحكمة). والصموت مبالغة صامت أي كثير الصمت. والحكمة أغلى شيء في حياة الإنسان.
وهذا الحديث الشريف يكشف أن الحكمة تأتي في الغالب من الصمت أكثر من الكلام، لأن الحكمة وليدة التأمل والتدبّر والتعقّل، وهذه كلها تتحقق في الصمت والسكوت.
والأحاديث في هذا المجال عديدة، وهي يُفسّر بعضها بعضاً، ومنها الأحاديث التي تنهى الإنسان عن التكلم فيما لا يعنيه، قال رسول الله " صلى الله عليه وآله": (من حسن اسلام المرء تركه الكلام فيما لا يعنيه)، أي إن على المرء أن يفكر في الكلام قبل أن يطلقه هل يعود عليه بالنفع أم لا؟! فإن لم يعد عليه بالنفع فليختر السكوت، وليتخلَّ عما كان يريد قوله.
عن الإمام علي " سلام الله عليه" أنه قال: (لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه)
نضرب لذلك مثلاً مادياً أيضاً، لأن الأمثلة المادية تقرب المعنويات إلى الأذهان، والإنسان بطبعه يحس بالماديات أكثر:
لو خيّر إنسان محتاج من الناحية المادية بين أمرين: الحضور في ساحة والتكلم فيها لقاء دينار مثلاً، أو البقاء ساكتاً لقاء دينارين، فأيهما سيختار؟ لا شك أنه سيختار الثاني لأنه أنفع له وأكثر ربحاً.
السكوت طريق الرّقيّ
بعد أن ضربنا هذا المثال المادي نقول:
إن السكوت هو الطريق الأفضل والأسرع لرقي الإنسان وتكامله، لأن الإنسان ميال بطبيعته لأن يقول كل ما يشعر به ويعلمه ويعرفه، مع أن معظمه لا يتناسب من حيث القيمة مع ما يصرفه الإنسان من وقت في هذا السبيل، في حين أن التأمل والتفكر يعطي نتائج أفضل.
وإذا كان الناس يعظّمون المبدعين والمخترعين والمكتشفين فإن الإبداع في كل مجالات الحياة يظهر نتيجة التأمل وليس الكلام.
إذا كان المۆمن صموتاً فإن تفكيره لا ينصرف إلى المال والشهوات، بل يفكّر في التعالي والسمو في طريق الخير والهداية والفضائل والكمال، وإذا أصبح كذلك أبدع فكره، وتفتّحت أمامه آفاق أخرى.
نقرّب الموضوع بمثال من واقع الحياة المادية أيضاً:
لو أن شخصاً أراد أن يشتري بضاعة ما، فتأمل قليلاً قبل ذلك، فربما انتهى إلى أن هذه البضاعة يمكن اقناۆها في أمكنة متعددة، وأن سعرها قد يكون في مكان ما أرخص مع الاحتفاظ بالمواصفات نفسها، وربما بمواصفات أحسن، وانتهى إلى أن من مصلحته أن يشتري نوعية معيّنة بالمواصفات الممتازة بتفاوت أقل في السعر.
ولو كان هذا الشخص قد بادر إلى شراء البضاعة دون تأمل وتفكر فربما ندم لفوات الأفضل والأرخص.
الحالة نفسها تصدق في المعنويات، فالطالب -مثلاً-يتأمل ويفكر في اختيار الدروس وسلوك الطريق الذي يختصر عليه الوقت، والمحاضر يفكر كيف يرفع من مستوى الحاضرين، والداعية يخطط قبل أن يبدأ بهداية الشباب، وهكذا المجاهد والعالم والقائد .. كلٌّ يبحث بالتأمل والتدبر عن أسهل الطرق وأسرعها بلوغاً للهدف، وهذا كله لا يأتي إلا بالصمت، فبه وبالتأمل وملاحظة الأمور ومقارنتها بعضها مع بعض بلغ العظماء ما بلغوا.
وعندما نراجع سيرة العظماء وتاريخ العلماء ومراجع الدين نجد أنهم كانوا كثيري الصمت والفكر والتأمل.
العاقل يفكّر ثم يتكلّم
عن الإمام علي " سلام الله عليه" أنه قال: (لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه) أي إن الأحمق سريع الكلام، يطلق القول قبل أن يفكر فيه، خلافاً للعاقل فإنه يفكر في الكلمة قبل أن يقولها.
ونقل عن بعض الحكماء أنه كان يقول: (لا ترسل كل كلمة مع أول خطورها إلى الذهن، بل ارجعها إلى الفكر وتمعن فيها سبع مرات قبل أن يطلقها لسانك). ولا شك أن من يتريث إلى هذه الدرجة تقلّ شطحاته وزلاّته غالباً، ويقل ندمه إثر ذلك.
لقد عرف الشيخ محمد تقي الشيرازي "رحمه الله" بأنه كان كثير الصمت، كثير الفكر، واشتهر بهذه الصفة حتى تناقلتها الكتب والعلماء. ومن جملة ما نقل عن أحواله في هذا الصدد أنه كان إذا دار نقاش بين تلاميذه في مسألة ما فلا يدخل في النقاش إن رأى أنه لا يعود بالنفع على الموضوع الذي يتكلم فيه.
لقد صحب النبي "صلى الله عليه وآله" أو عاصره الآلاف من المسلمين وغيرهم، ولكن الذين عُرفوا واشتهروا بالفضل -عدا أهل البيت سلام الله عليهم-يعدون على الأصابع، ومن أبرزهم أبو ذر الغفاري، وقد عرف من بين أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وآله" أن أكثر عبادته التفكر. فعن أبي عبد الله الصادق -سلام الله عليه-: (كان أكثر عبادة أبي ذر التفكر والصمت).
وهكذا لو ألقيتم نظرة على ما حولكم ترون أن أكثر من بلغوا المراتب العالية في الدنيا والدين، في العلوم الدينية وغيرها -كالطب والهندسة والتجارة-هم أناس مفكرون يركزّون على التفكير والتأمل، ولهذا عُدّ الصمت من فضائل الأخلاق.
لوقت الإنسان أغلى الأثمان
هذا وليس المقصود بالصمت عدم الحديث مطلقاً، فكما إن الثرثرة ممقوتة فكذلك السكوت حيث يعود الكلام بالنفع على الذات أو المجتمع. إن المطلوب أن لا يبذر الإنسان وقته في الحديث غير النافع، لأن الوقت أغلى من المال. والمال قد يعوّض، أما الوقت فغير قابل للتعويض، ولقد ورد في الحديث عن الإمام أمير المۆمنين "سلام الله عليه": (إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها).
فحري بالإنسان أن يستفيد من ساعات عمره أقصى ما يستطيع، كما يفكّر باستثمار أمواله على أحسن نحو يمكن، فتراه لا يبذّرها بل لا ينفقها إلا حيث يحب، ولا يعطي منها أكثر مما يحب، وإذا أراد شراء حاجة ماكس في سعرها حتى يخفضها إلى أقل ما يستطيع، هذا مع أن المال سهل التحصيل نسبيّاً، ولا يودي ذهابه بحياة الإنسان، أما وقت الإنسان فهو ثروته الحقيقيّة، ولذلك يجب عليه أن يعرف كيف ينفقها ولا يبيعها بالتافه.
فلنقرّر من الآن أن نتعوّد على الصمت والاستفادة من الوقت، وهذا لا يتحقّق دفعة واحدة، بل يأتي عبر المران والترويض، ويبدأ بالقليل ثم يزداد شيئاً فشيئاً، وذلك بأن يصمّم المرء أن يكون منتبهاً لنفسه كلّ يوم في ساعة معيّنة، فلا يتكلّم إلا بعد أن يتأمل ويشخّص أنه نافع، ويستمر على هذه الحالة لمدّة أسبوع مثلاً، بعد ذلك يزيد المدة إلى ساعتين، وهكذا لمدة أسبوعين أو شهر مثلاً، ويستمر يزيد عدد الساعات التي يراقب نفسه فيها بمرور الزمن حتى تصبح الحالة ملكة عنده.
هذه التجربة التي أنقلها لكم خلال عدة ثوان أو دقائق يحتاج تحقيقها إلى وقت طويل، ولكنها ثمينة جدّاً، لأن ما يحصله الإنسان منها هو أغلى شيء في الحياة، وهو عمره وتاريخه وحياته وثروته الحقيقية في هذه الدنيا التي يتاجر بها لكي يربح الحياة في الآخرة.
أولياء الله أهل صمت وتأمّل
إن الإنسان المهذار الثرثار الذي يطلق للسانه العنان، ويتفوّه بكل ما يخطر بباله، ولا يرى قيمة لوقته وحياته، مثل هذا الإنسان لن يصل إلى شيء.
أما نحن الذين نهدف إلى بلوغ جوار الله تعالى والقرب من الأنبياء والمتقين فينبغي أن لا نكون كذلك، وأن نعلم أن التكامل لا يأتي من لا شيء وبلا تأمل وفكر.
كان للإمام موسى بن جعفر "سلام الله عليهما" ولد يسمى بـ"زيد النار"، لأنه أحرق بعض بني أمية بالنار، ولم يكن سالكاً طريق أبيه، فقال له الإمام الرضا " سلام الله عليه" يوماً ينصحه: (إن كنت ترى أنك تعصي الله وتدخل الجنة، وموسى بن جعفر - سلام الله عليه- أطاع الله ودخل الجنة ، فأنت إذاً أكرم على الله - عزّ وجل - من موسى بن جعفر ، والله ما ينال أحد ما عند الله - عزّ وجل - إلا بطاعته).
ونحن الذين نريد أن نكون غداً مع أولياء الله في الجنة، ليس لنا إلى ذلك إلا طريق واحد، وهو سلوك طريق أولياء الله تعالى، ومن أساسيات طريقهم أنهم كانوا أهل صمت وتأمل، وكما ورد في الحديث عن الإمام أبي عبد الله الصادق "سلام الله عليه":(الأغلب من غلب بالخير، والمغلوب من غلب بالشر، والمۆمن ملجم).
في حديث آخر أنه توجد على لسان الإنسان أربعة أبواب، وهي الشفتان الفوقية والتحتية والأسنان الفوقانية والتحتانية، فلماذا لا يلتزم الإنسان الصمت رغم كل ذلك؟!
هب أن بعض الكلام ليس حراما، ولكن لماذا الإسراف والتبذير؟ أجل إن هذا من أسوأ أنواع الإسراف، وإن لم يذكر تحت اسمه، وربما لم يعرف ذلك كثير من الناس، ولكن في الواقع قد يكون أسوأ من إسراف المال أحياناً.
تبلور مما تقدم أن الصمت أحد الفضائل الأخلاقية التي يحتاج الإنسان لتحصيلها إلى التجربة، وتحتاج التجربة إلى زمن، وإلى ثبات وصمود، بيد أنه يجب -مع ذلك-على الإنسان أن لا يغفل عن الاعتماد على الله "سبحانه وتعالى" والتوسل به وصولاً إلى النتيجة، قال الله تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاۆكم).
فهذه خمس فضائل (معرفة قيمة الوقت، والتأمل قبل الكلام، وترويض النفس، والثبات، والاعتماد على الله تعالى) وصولاً إلى فضيلة الصمت التي إن وفقنا لبلوغها سنشعر حينها كم من كلماتنا قد ذهبت قبل ذلك هدراً بلا نفع لأنفسنا ولا لغيرنا، فلننتهز الفرصة قبل أن يأتي يوم لا نستطيع أن نزيد فيه حسناتنا أو ننقص من سيئاتنا.
المصدر:
كتاب المقام الرفيع للسيد صادق الشيرازي
اعداد: سيد مرتضى محمدي
معنى تطهير النفس البشرية