قصَّة أصحابِ الفِيل
تتمّيز هذه الاُقصوصة أو الحكاية بجملة سمات ، منها: أ نّها تتمحّض للسرد الخالص ، أي لا تتوكّأ على عنصر المحاورة و منها: طغيان العنصر الحيواني بالنسبة إلى أبطالها ، كالفيل و كالطير . و منها: وحدة ضمير السرد و هو الغائب . . . و سنجد أنّ لهذه السمات أثرها في الصياغة الجمالية و الدلالية للحكاية . المهمّ يمكن الذهاب إلى أنّ اُقصوصة أصحاب الفيل وُزِّعت في سورتين قصيرتين ، هما: سورة الفيل و سورة الإيلاف .
و لهذا التوزيع في سورتين ـ مع أ نّهما تـتناولان حادثةً قصصيةً واحدة ـ دلالة فنّية سنوضحها في تضاعيف دراستنا لهذه القصة .
لكن الملاحظ أنّ المشرّع الإسلامي يُطالبنا بدمج هاتين السورتين و قراءتهما في الصلاة بمثابة سورة واحدة ، . . . و مثلهما سورتا الضحى و ألم نشرح .
و هذه المُطالبة من قبل المشرّع الإسلامي ، تُلقي بعضاً من الإنارة الفنّية دون أدنى شك ، . . . فمادامت السورتان تُقرءان بمثابة سورة واحدة في الصلاة ، فهذا يعني أنّ هناك وحدة أو خطوطاً مشتركة تجمع بين السورتين ، من الممكن أن يجهل الدارسُ أسرار ذلك تكوينياً ، لكنّه من الناحية الفنّية يمكنه أن يُدرك بسهولة بعض أسرار الفنّ القصصي ، مادام الأمر يتصل بحادثة واحدة هي محاولة هجوم أبرهة على مكّة ، و استهدافه هدم الكعبة ، ثمّ فَشَلُ هذا الهجوم و إبادة جيشه ، وصِلة اُولئك جميعاً بطبقة اجتماعية في مكة ، هي قريش ، و موقفها من ثمّ من رسالة الإسلام .
و المهم: أنّ كلاّ من وحدة السورتين و انفصالهما له دلالته الفنّية التي سنتحدّث عنها لاحقاً .
و لكن قبل ذلك ، لنقرأ النص القصصي أوّلا:
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ)
(أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ)
(أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل)
(وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ)
(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجِّيل)
(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول)
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ)
(لإِيلافِ قُرَيْش)
(إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ)
(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ)
(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْف)
و الآن ، لِنتقدّم إلى تلخيص القصة قبل الرجوع إلى النصوص المفسّرة . فماذا يُمكننا بصفتنا قرّاء قصة فنّية أن نستخلص منها: أبطالا و حوادثَ و مواقفَ ؟
* * *
النص القصصي يقول لنا: إنّ هناك رهطاً أو مجموعةً ، هم أصحاب الفيل ، و إلى أنّ كيدَهم رُدّ إلى نحورهم ، متمثّلا في إرسال السماء عليهم أسراباً من الطيور تقذفهم بحجارة صلبة ، حتّى تقطّعت أوصالُهم ، فأصبحت مثل الزرع الذي أكلته الدواب ، وَرَاثَتهُ ، و داست عليه .
و كلّ ذلك من أجل إسباغ النعمة على قوم هم قريش . . . مُضافاً إلى أنّ قُرَيشاً قد اُسبِغَت عليهم نعمة اُخرى هي: تهيئة رحلات تجارية لهم في الشتاء و الصيف لتأمين الراحة لهم ، حتّى لا يصيبهم جوع و لا يهدّد أمنَهم أي خوف من الأعداء الذين يُغيرون عليهم .
إلى هنا فإنّ القارئ لهذه القصة بمقدوره أن يستخلص بأنّ القضية تـتصل بقوم قريش و بالكعبة التي يعيش هۆلاء القومُ في ظلّها .
إنّه ـ أي القارئ ـ لايمكنه أن يعرف من ظاهر القصة سوى أنّ هناك هجوماً من الأعداء هم أصحاب الفيل ، و أ نّهم قصدوا البيت الحرام ، فأبيدوا . و إلى أنّ قُريشاًأمنت حياتها مِن ذلك .
مضافاً إلى تأمين حياتها الاقتصادية من خلال رحلة الشتاء و الصيف . فيما يتعيّن عليهم أن يقّدروا هذه النِعَمَ التي اغدقها اللّه عليهم و أن يعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع و أَمَنهم من خوف .
خارجاً عن ذلك ، فإنّ القارئ يجهل كلّ التفاصيل المتّصلة بأسباب الهجوم و بتحديد هوية المُهاجمين ، و تحديد علاقة الشخصية الحيوانية الفيل بهۆلاء المهاجمين . . .
كما يجهل القارئ رحلتي الشتاء و الصيف و تفصيلاتهما المتصلة بحادثة الهجوم .
غير أنّ جهل القارئ بهذه التفصيلات لا يمنعه من استخلاص الدلالة الفكرية للقصة التي تستهدف لفت الانتباه إلى أنّ نِعَمَ اللّه لا تعدّ و لا تحصى ، و إلى أ نّه سبحانه و تعالى يقف بالمرصاد لكلّ من يعتزم إلحاق السوء بمواطن العبادة ، و إلى أنّ تقدير هذه النِعَمَ ينبغي ألاّ يغيب عن ذاكرة اُولئك الذين أحاطوا بالبيت . . .
هذه الدلالة الفكرية واضحة كلّ الوضوح ، ممّا تفسّر لنا عدم دخول القصة في تفصيلات فنّية تـتكفّل النصوص المفسّرة بتوضيحها ، مثلما تـتكفّل خبراتُ القارئ و تجاربُه باستخلاصها ، حتّى تُحقّق للقارئ المتعةَ الفنّية التي يكتشفها كلٌّ منّا خلال قراءته لهذه النصوص القصصية العظيمة .
إذن لِنتّجه إلى نصوص التفسير ، و مساهمة القُرّاء في الكشف عن المزيد من التفصيلات الفنّية و الفكرية للقصة .
* * *
تقول النصوص المفسّرة: إنّ أبرهة حاكم اليمَن و هو حبشي ، بدافع من عقيدته الملتوية و أسباب اُخرى لا يعنينا عَرضُها ، قرّر هدم البيت الحرام ، فزحف بجيشه الذي تقدّمه فيلٌ ـ كان الحاكمُ يباهي به الآخرين ـ زحفَ نحو مكّة ، إلاّ أنّ الفيل ربَضَ و امتنع من الدخول .
و كانت هذه الحادثة أوّل مۆشّر لفشل الهجوم .
بيد أنّ قريشاً فيما يبدو هالهم هذا الزحف ، فالتجأوا إلى رۆوس الجبال قائلين:
لا طاقة لنا بقتال هۆلاء .
و هذه الحادثة على العكس من سابقتها تظلّ مۆشّراً لأوّل وهلة و كأنّ الزحف محفوف بالنصر .
و هناك حادثة ثالثة رافقت هذه العملية ، و هي: أنّ الجيش استولى على إبل عبدالمطلب الذي بقي هو و بعض الأفراد على حراسة البيت الحرام . و حيال هذه الحادثة طالب عبدُالمطلب أبرهة بردّ إبله ، ممّا ترك ردّ فعل سلبي في أعماق أبرهة قائلا له بما مۆدّاه: كنت أتخيّل إنّك تطالبني بالكفّ عن الكعبة ، و إذا بك تطالبني بمكاسب شخصيّة . و عندها أجابه عبدالمطلب بما مۆدّاه: إنّ للبيت ربّاً يحميه .
هذه الإجابة تشكل بدورها مۆشّراً لفشل الهجوم ، مادامت القضية قد ارتبطت بربّ البيت .
و هناك تفصيلات اُخرى عن عملية الهجوم و مقدّماته و ملابساته تذكرها نصوص التفسير ، لا يعنينا منها إلاّ مۆشّراتها التي تدلّ من جانب على أنّ الهجوم سيواكبه الفشل ، و إلى أنّ القريشيين من جانب آخر لم يُساهموا في ردّ العدوان ، بقدر ما تمثّل الردّ في تدخّل السماء ، و حسمها للأمر على نحو ما فصّلته القصة .
و ممّا تجدر ملاحظته ، أنّ هذه التفصيلات التي حذفتها القصة لا تۆثّر على دلالتها الجوهرية التي قلنا: إنّ القصة ألمحت إليها فنّياً حينما تحدّثت فحسب عن قريش ، و عن ردّ الهجوم ، و عن عناية السماء بعامّة بالبيت و ممّن يحيطون به .
و مع ذلك ينبغي ألاّ يفوتنا دلالاتها التي أشرنا إليها: مِن رَبض الفيل ، و إجابة عبدالمطلب ، و هروب قريش إلى رۆوس الجبال . . . إلى آخره ، لأ نّها جميعاً تدلّنا على أنّ حماية السماء تحسم المشكلة أساساً ، و إلى أنّ تقدير و تثمين هذه الحماية ، مشفوعةً بِنِعَم الأمن و الشبع ، ينبغي أن تـتوفّر عليه قريش في تعاملها مع اللّه . . . و بخاصة أنّ مكة تشهد أحداثاً و وقائع تـتصل برسالة الإسلام التي بشّر بها محمّدٌ (صلى الله عليه وآله) و موقف قريش بالذات من هذه الرسالة .
إذن قريش و موقفها الجديد من رسالة الإسلام ، هي المحطّ الذي ستنتهي القصةُ إليه على نحو ما سنلحظه .
بدأت قصة أصحاب الفيل برسم الفشل الذي رافق حملة أبرهة على الكعبة .
بيد أنّ فَشَل هذه الحملة لم يتم على يد أبطال آدميين توجّهوا إلى ساحة القتال لردّ العدوان ، بل تمّ على أكُفّ و أجنحةِ و مناقير و أنياب أبطال ينتسبون إلى عضوية اُخرى هي: الطير .
و الطيور بصفتهم أبطالا في القصة ، لم يمارسوا أدواراً محدّدة لهم في هذه القصة فحسب ، بل مارسَ هۆلاء الأبطال أدواراً كثيرة متنوّعة في قصص اُخرى ، . . .
و في مقدّمتها داود و سليمان ، . . . فهُم حيناً ـ أي الطيور ـ بصفتهم أبطالا يُشاركون الآدميين في ممارسات عبادية لفظية و تأمليّة مثل التسبيح و التأويب في قصص داود . . . و هم حيناً يمارسون نشاطاً إعمارياً ، أو سياسياً أو عسكرياً ، كما هو شأنهم في قصص سليمان (عليه السلام) . . . و هم حيناً يمارسون هذه الألوان من النشاط بنحو مشترك بينهم وبين الآدميين ، كما في قصص سليمان . . . و حيناً آخر يمارسون نشاطاً مستقلا عن الآدميين ، كما هو شأنهم في قصة أصحاب الفيل .
لقد توجّه هۆلاء الأبطال ، أي الطيور إلى ساحة المعركة بناءً على أوامر السماء . . .
هذه الساحة لم تكن أرضاً ، بل كانت جوّاً .
و كما أنّ أبطال المعركة لم يكونوا بشراً ، بل طيراً .
كذلك لم تكن ساحتُهم أرضاً ، بل جوّاً . . .
و أسلحتهم أيضاً لم تكن عاديةً أو مألوفةً ، بل كانت من السلاح الغريب أيضاً .
إنّه الحجارة . . .
إذن نحن الآن أمام أبطال ، و ساحة ، و سلاح من نوع خاص ، . . . من نوع يتّسم بما هو غريبٌ و مدهشٌ و معجزٌ . . .
و إذا كان الأمر كذلك ، حينئذ نتوقّع أن يكون سيرُ المعارك مُثيراً كلّ الإثارة أيضاً ، . . . إنّها معركة لم تألفها الأذهان ، و لم تشاهدها العيون . . . معركة مُثيرة تدفعنا بفضول و نهم و شوق و تطلّع إلى معرفة تفصيلاتها الداعية إلى الدهشة و العجب . . .
فإلى تفصيلاتها . . .
* * *
هۆلاء الأبطال كما قلنا ، هُمُ الطير .
و لكن بأيّةِ هيئة عسكرية ؟
تقول القصة: (وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) و يعني أبابيل هو: جماعاتٌ أو زُمَر ، أي أنّ الطير تقدّمت إلى ساحة المعركة أسراباً مُحتشدة .
و للقارئ أن يستخدم مخيّلته في مثل هذه الهيئة العسكرية للطيور ، حيث أنّ الأمر قد يبدو مألوفاً للعيون في نطاق تجمّع الطير في الجوّ . . .
و بعض رجال عبدالمطلب قد شاهَدَ طَلائع هذا الردّ الجوي على العدوان ـ وفقاً لبعض النصوص المفسّرة ـ . تقول الرواية المفسّرة:
قال عبدالمطلب لبعض مواليه: إعلُ الجبل ، فانظر ترى شيئاً ؟ فقال: أرى سواداً من قِبَلِ البحر . فقال له: يُصيب بصرك أجمع ؟ فقال له: لا ، و اوشك أن يصيب . فلما أن قربَ ، قال: هو طيرٌ كثير .
إذن بدأت طلائعُ الزحف في شكل سواد من جهة البحر ، حتّى اقترب من ساحة المعركة ، . . . و عندها شاهَده البعضُ بوضوح ، و عرف أ نّه طير .
غير أنّ هذه الطيور لم تكن عاديةً من حيث سماتها الخارجية ، بل كانت ذات أشكال متميّزة .
تقول بعض النصوص المفسّرة: كان طير ساف ، جاءَهم من قِبَل البحر رۆوسها كأمثال رۆوس السباع ، و أظفارها مثل أظفار السباع .
و هذا يعني من حيث الوصف الخارجي لملامح الأبطال: أبطال الطير . . . إنّ هۆلاء الأبطال قد اختيروا بنحو يتناسب مع أي بطل يقتحم المعركة . فالبطل الآدمي مثلا يتميّز بكونه مفتول الساعد . . . و هكذا أبطال الطير . . .
فرۆوسهم و أظفارهم مثل رۆوس السباع و أظفارها ، ممّا يعني أنّهم أبطالٌ من نمط خاص ، تـتناسب هيأتهم الضخمة مع ضخامة المعركة التي يخوضونها . . .
و هذا كلّه فيما يتّصل بملامح الأبطال .
و لكنّ الذي يعنينا الآن ، هو طريقة قتالهم من خلال ساحة المعركة ، و هي الجو ، و من خلال نمط السلاح الذي استخدموه ، و هو الحجارة ، و من خلال عملية استخدام السلاح نفسه . . .
إذن لنتابع هذه التفصيلات .
* * *
قلنا: إنّ الأبطال الطير كان سلاحها هو الحجارة :
(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجِّيل) . . .
و مثلما كان الأبطال من نمط خاصٍّ هو الطير ، و ملامحهم من نوع خاص مثل السباع ، فإنّ سلاحهم كان من نوع خاص هو الحجارة الصلبة ، شديدة ليس مثلها سائر الحجر . . .
و تقول النصوص المفسّرة: إنّ كلّ طير كان يحمل ثلاثة أحجار ، . . . واحداً في منقاره ، و اثنين في رجليه .
و هذا يعني أنّ سلاح الأبطال قد جُهّز بنحو مُستكمل فيما يتصل بحمل الذخيرة . . . فالطائر يطير بجناحيه و هما وسيلة تحرّكه و أمّا منقاره و رجلاه فهي أدواتٌ ثلاثة منحصرة في تركيبته ، بحيث استخدم كلّ أداة ممكنة لديه لحمل الذخيرة ، و استخدامها دفعةً واحدة ، أي إلقاء الأحجار الثلاثة على العدو ، و المضي إلى سبيله بعد انتهاء الذخيرة .
و تضيف النصوص المفسّرة ، أنّ حجم هذه الأحجار مثل العدسة ، و لكنها مثلما قلنا شديدة الصلابة .
إلاّ أنّ ما يلفت الانتباه ، هو فاعلية هذا السلاح و اقترانه بما هو مُدهشٌ و غريب مثل غرابة الأبطال ، و ملامحهم ، و ساحة معركتهم ، و طريقة حملهم للذخيرة .
فالنصوص المفسّرة تذهب إلى أنّ هذه الأحجار كانت تسقط على رۆوس العدو أو أجساده و تخترقها إلى الجانب الآخر .
و تقول بعض هذه النصوص: إنّ تأثير هذا السلاح كان ذا بُعد آخر ، هو نثرُ لحومهم تدريجياً على نحو ما يتركه مرضُ الجدري ، بحيث كان العدو يحكّ جسمه منها ، فيتناثر لحمه بمجرّد أن يحكّ جَسَده . . .
إنّ فاعلية مثل هذا السلاح تبقى ـ مثلما قلنا ـ حافلةً بما هو مثيرٌ و مُدهش . . .
فالحجارة مثل العدسة ، لكنها صلبة و سقوطها على الرۆوس و الأجسام مثل السهم يخترقها إلى الجانب الآخر .
أو أنّها لاذعةٌ كلّ اللذع ، بحيث تحمل العدو على حكّ جسمه ، و تنثره بمجرّد الحكّ . . .
إنّ كيميائية مثل هذا السلاح ، تظلّ مقترنة بقدرات السماء التي أودعت في الأحجار مفعولها الكيميائي المذكور ، تجانساً مع سائر قدراتها التي لا حدّ لها في الوقوف بالمرصاد لكلّ من تحدّث نفسه بالتعرّض لبيت اللّه . . .
و المهمّ أنّ نوع الأبطال و ملامحهم ، و نوع السلاح و حَمْلَه ، و نوع القتال و فاعليته . . . كلّ ذلك شكّل تجانساً فنّياً بين أجزاء القصة ، أبطالا و أحداثاً على نحو ما لحظناه و نلحظه بعد ذلك في الجزء اللاحق من القصة .
* * *
ينتهي القسم الأوّل من قصة أصحاب الفيل بإبادة العدو إبادة تامّة على يد الأبطال: أبطال الطير .
و قد سَبَق أن قلنا: إنّ العدو قد اُبيد على أحد شكلين ذكرتهما نصوص التفسير .
النحو الأوّل من الإبادة هو: اختراق الحجارة أجسامهم و خروجها من الطرف الآخر .
أمّا النحو الآخر من الإبادة فهو: إصابتهم بالجدري و تمزّق لحومهم ، بسبب من الحكّ الذي أحدثته كيمياء الحجارة .
أمّا النص القصصي فيقول لنا: إنّ الأعداء أصبحوا (كَعَصْف مَأْكُول) .
هذه الصورة الفنّية عصفٌ مأكول ليست مجرّد تركيب فنّيٍّ قائم على عنصر التشبيه ، بل هي رمزٌ غنيٌّ بالدلالات التي تفسّر نمط النهاية الكسيحة التي أصابت العدو .
و من الحقائق المألوفة في ميدان الفنّ القصصي ، أنّ عنصر الصورة ، متمثّلة في :
التشبيه و الاستعارة و الكناية ، و سائر العناصر البلاغية ، و منها: الرمز بمفهومه الحديث ، هذا العنصر لم يُعد في معايير الفنّ المُعاصر وقفاً على الشعر ، بل بدأت القصة الحديثة تستعير عناصر الشعر ، لتـتوكّأ بها على صياغة الأفكار القصصية ، . . . حتّى أ نّ بعض القصص القصيرة الحديثة تُصاغ بأكملها وفق عنصر الصورة ، بحيث نلحظ القصةَ من بدايتها و حتّى نهايتها سلسلة من الصور المتعاقبة و كأ نّها قصيدة شعر .
و المهمّ أنّ قصة أصحاب الفيل اعتمدت عنصر الصورة الشعرية في رسمها لنهاية العدو ، مستهدفةً من ذلك تبيين أدقّ التفاصيل التي رافقت هزيمة العدو .
و سواء أكانت الإبادة تـتمثّل في اختراق الحجارة لأجسام المندحرين ، أم كانت تـتمثّل في تناثر لحومهم بسبب من جدري الحجارة ، . . . فإنّ النتيجة تظلّ متماثلة . ألا و هي إبادة العدو جسمياً بشكل خاص ، هو انتثار أجسادهم و تقطّعها تدريجياً أو دفعةً واحدة من خلال الاختراق أو الحكّ .
و لكن لننظُر دلالات الصورة الفنّية (كَعَصْف مَأْكُول) في تحديدها لهذه النهاية ، فإنّها أشدّ إيحاءً و كشفاً لعناصر الموضوع الذي نتحدّث عنه .
* * *
ماذا تعني هذه الصورة الفنّية:
(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول؟)
العصفُ هو: التبن . و المأكول: ما يبقى منه بعد لفظِه إلى الخارج .
و هذا يعني أنّ الصورة الفنّية شبّهت تناثر و تقطّع أجساد العدو بتبن أكلته الحيوانات ، . . . ثمّ راثته ، و داست الأقدامُ على ذلك الروث حتّى تناثَرَ هنا و هناك .
إنّ القارئ مدعوّ إلى تأمّل هذه الصورة الفنّية بدقّة و كلّنا يعرف أنّ معيار الجودة و الإثارة في عنصر الصورة الشعرية ، هو قيامُها على انتقاء شيء مشترك بين طَرَفي الصورة ، يكون أشدّ من غيره إثارة و استجماعاً للدلالة التي تستهدفها الصورة ، مع ملاحظة أن يكون التركيبُ للصورة متّسماً بما هو طريفٌ و جديدٌ و مبتكر من جانب ، و أن يكون مألوفاً في الأذهان من جانب آخر .
أمّا إذا لم يكن مألوفاً في الأذهان ، بأن كان غامضاً ، ملفّعاً بالضبابية ، . . . أو إذا لم يكن ذا جدة و طرافة و ابتكار ، كأن يكون مبتذل الاستعمال ، حينئذ فإنّ الصورة الشعرية تفقد أهميتها .
و الآن حين نتّجه إلى الصورة التي نحن في صددها و هي:
(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول)
نجدها مستجمعةً لكلّ عناصر الجودة المطلوبة في صياغة الصورة الفنّية و زيادة .
فهي أوّلا تـتّسم بكونها مألوفةً في الأذهان . . . يخبرها الجميع ، و يُشاهدها الكلّ في تجاربه المرئية: فالتبنُ و طريقةُ تناولِ الدواب لهذا الطعام ، ثمّ لفظه روثاً ، ثمّ دوسُ الأقدام عليه ، ثمّ تناثره على الدروب . . . كلّ ذلك يشاهده الرائي ، و لا يحتاج إلى إعمال الذهن في إدراكه .
و أمّا كون هذه الصورة الفنّية طريفةً ، و جديدة ، فأمرٌ واضحٌ ، مادام الأمرُ متّصلا بانتزاع شيء يتماثل مع شيء آخر و يشاركه في تلك السمة ، بنحو لم يُنتبه عليه في كتابة الصورة الفنّية .
و هل هناك طرافةٌ وجدةٌ أشدّ من هذه الصورة التي تُقارن بين تناثر لحوم الأعداء و تقطّعها و تفرّقها ، و بين تناثر التبن المأكول ، و لفظه روثاً ، و الدوس عليه ، و تفرّقه نتيجة اللفظ و الدوس عليه ؟
* * *
إنّ أهمية الصورة الفنّية المذكورة(كَعَصْف مَأْكُول) في قصة أصحاب الفيل تـتمثّل في تضمّنها رسماً لكلّ عدوّ يحاول الكيد لمواطن العبادة و مساكن اللّه .
إنّ أعداء اللّه تناثرت أجسادهم بسبب من سلاح الحجارة التي استخدمها أبطال الطير . فإذا ذهبنا مع التفسير القائل بأنّ العدو عندما اُلقيت الحجارة عليه ، كانت تلذعه بنحو يضطر فيه إلى أن يحكّ جلده ، و ما أن يحكّ جلده حتّى يتناثر لحمُه ، فيسقط على الأرض أجزاءً متفرّقةً مثل أجزاء الروث المتفرّق على وجه الأرض ، حينئذ ندرك أهمية مثل هذه الصورة . مع ملاحظة أنّ كليهما: اللحم المتناثر و الروث المتناثر يتّسمان بالرخاوة و كراهية الرائحة المنبعثة منهما . . .
فضلا عن أ نّهما يمثّلان نهايتين قذرتين متماثلتين: النهاية القذرة للعصف المأكول ، و النهاية القذرة لأعداء اللّه .
قذارة العصف المأكول ، تـتمثّل في كونها عيّنةً مادّية ملفوظة إلى الخارج .
و قذارة أعداء اللّه تـتمثّل في كونها ظاهرة نفسية أوّلا ، هي: محاربة اللّه .
و هل هناك أشدّ قذارة من محاربة الإنسان لمُبدعه ؟
و تـتمثّل ثانياً في انعكاس القذارة النفسية على القذارة الجسمية ، بحيث تتحوّل إلى لحوم قذرة ، ذات رائحة كريهة ، و منظر قبيح مشوّه ، يتناثر هنا و هناك .
و طبيعيّاً فإنّ هذه الصورة الفنّية توحي فضلا عما تقدّم بدلالات اُخرى لم نشأ أن نفصّل فيها خوفاً من الإطالة ، إلاّ أنّ القارئ مدعوّ كما قلنا إلى تأمّلها بدقة ، و ملاحظة عناصر الشبه بين العصف المأكول و اللحوم المتناثرة في:
تفاهة كلّ منهما .
و في كونهما شيئاً ملفوظاً إلى الخارج .
و في كونهما شيئاً يُداس بالأقدام .
و في كونهما شيئاً يتناثر هنا و هناك .
و في كونهما مشفوعين برائحة كريهة .
و في كونهما مشفوعين بمنظر قبيح و مشوّه . . . إلى آخره .
و المهمّ بعد ذلك كلّه ، أنّ الدلالة الفكرية لهذه الصورة تحدّد بوضوح أنّ الطغاة في أيّ زمان و مكان ، قديماً و حديثاً سيلفّهم مثل هذا المصير القذر عاجلا أو آجلا ماداموا نصبوا أنفسهم لمحاربة اللّه ، و رسالة الإسلام ، و أحبّاء اللّه . . .
و المهمّ أيضاً ، أن يُدرك القارئ أهميّة الفنّ العظيم في الكشف عن مثل هذه الدلالة الفكرية على نحو ما لحظناه مفصّلا في صورة «و جعلهم كعصف مأكول» و في سائر العناصر التي تضمّنها القسم الأوّل من قصة أصحاب الفيل .
* * *
ينتهي القسمُ الأوّل من قصة أصحاب الفيل بحادثة إبادتهم مثلَ عصف مأكول .
طالوت وبنو إسرائيل
الإمرأة الصالحة في القران
قصة موسى والخضر عليه السلام
كيفَ كانَ زواج أبناء آدم