يا ضامن الغزالة!(آهو) ٤
يا ضامن الغزالة!(آهو) ١
يا ضامن الغزالة!(هو)٢
يا ضامن الغزالة!(هو) ٣ الشمس تَتَألّق ساطعةً في السماء، والطيور تَخِفّ مُحلِّقة في الفضاء الأزرق. وعلى غصون الشجر يُغَرِّد بعضها بأصواتٍ عذبة. الساقية تَمُرّ في وسط المرج الأخضر الوسيع وتمنح الجوّ نَداوَة طريّة وهي تترنّم بأنغام الحُبّ كأنّها أمّ حَنون تُهَدهِد طفلَها لينام. وتتدفّق نَبضات الحياة مُجَدَّداً.. فتتذوّق الغزالة مرّةً أُخرى طعمَ الحرية اللذيذ.
قال النسيم:
ـ الحرية جوهر غالية.
وقال متأسّفاً:
ـ واحَسرَتاه! إنّها تتعرّض للخطر دائماً بسبب أنانيّة الإنسان.
هَبّ النسيم.. فتَمايَلَت الأغصان، وانتَشَر في الجوّ عِطرُ الرَّياحين. ركضت الغزالة بلا انقطاع.. وكانت الأرض تَمُرّ من تحتها بسرعة فائقة.
مِن بعيد.. لَمَحَت صغارَها يتقافَزُون في الأجَمَة. صاحت تُناديهم:
ـ يا أولادي..!
سمع الخُشُوف صوت أمّهم الدافئ الذي يعرفونه كأنّه نغمةُ قَطَرات المطر المُطرِبة، فأسرعوا يَركضون إليها صائحين بفرح:
ـ أُمُّنا جاءت..!
اشتَمل عليهم أُنس لا حدّ له، وأحسّوا كأنّ قلوبهم تريد أن تطير من السرور. وما إن وصلوا إلى أُمِّهم حتّى طاف في الفضاء مِن حولهم عِطرُ حُضُور الأُمّ. لحظات زاخرة بالقُبَل والضحكات المُتَلاحقة والاحتضان، ودموعُ الشوق تُمطِر من عيون الصغار. أخذت الغزالة تشمّهم واحداً واحداً، وتُقبّلُهم بِمُناغاة وحنين. كأنّما الزمان قد توقّف عن الحركة! ما أسعَدَها من لحظة تُفتَح فيها بينهم نوافذ القلب في لقاء رائع جديد!
المرج بكلّ مشاعره.. يَتَطلّع إلى هذا المشهد الذي لا يُنسى. فكَّرَ في نفسه: « ما أصعَبَ اللحظة التي تفوح منها رائحة الفراق، رائحة الدموع والآهات..! ». ثمّ لم يَقدِر على مُواصلة هذا التفكير الحزين الذي شَغَل ذهنَه في تلك اللحظة. هَمَس في أُذُن النسيم:
ـ أقَرّرَت الغزالة البقاء مع خُشوفها، أم أنّها تنوي الوفاء بالعهد ؟
همس النسيم في أذن المرج بصوتٍ خفيض:
ـ لا أدري ماذا قرّرت.
قال المرج:
ـ قرار صعب! ساعِدْها يا ربّ.
قال النسيم:
ـ في كثير من الأوقات نَقِف بين مُفتَرَق طريقَين، وعلينا أن نختار أحد هذَين الطريقين.
قال المرج:
ـ الاختيار بالنسبة إليّ شيء صعب دائماً.
قال النسيم:
ـ الواقع أنّنا إذا اختَرنا فقد رَسَمنا مصيرنا.
دَعَت الغزالة صغارَها أن يأتوا إلى ظلّ شجرة كبيرة، وجلست قُربَهُم على العشب الأخضر، قالت لهم:
ـ عندي كلام، ينبغي أن أقوله لكم.
سكتت الغزالة، وأخذ الخُشُوف ينظرون إلى أمِّهِم. فكّرت الغزالة:
« إنّه وقتُ إخبار صغارها بالحقيقة ». انقَبَضَ قلبها لهذه الفكرة، وعاوَدَها الهمّ. انطفأت في داخلها شعلة السرور، وأحسّت ببردٍ لا سع بدأ يتسلّل إلى وجودها في العُمق، وأخذ جسمها يَنمُل. صَعّدت آهةً من عُمق وجودها العاجز المسكين. قالت في نفسها: « أصحيح أنّ علَيّ العودة مرّة أُخرى ؟ ».
ثمّ راحت تُكرّر بحزن وحَيرة وهي تَهمِس: « أطفالي كيف يقدرون على العَيش بدوني ؟! ».
تعجّب الخُشوف من صمت أُمّهم المُفاجئ:
ـ ما الذي حدث لك يا أُمّاه ؟! لماذا تتكلّمين مع نفسك ؟!
إنّ « شيئاً » قد خَطَر في بالِ كلّ واحد من الصغار، فأخافَهُم بطريقةٍ خفيّة. ومرّ في خاطر الغزالة: « فراق أطفالي غير ممكن! ». نظرت إلى صغارها بعين حزينة، وسألت نفسَها « إن لم أرجِع إلى الموعد فما الذي سيُصيب ذلك الرجل الرۆوف ؟! أليس من غير الإنصاف أن يَدفَع هو ثمن خيانة الغزالة ؟! لقد قَدَّم لي إحساناً.. فهل أُجازيه بالإساءة ؟! لو كانت أُمور الدنيا تجري هكذا لَما وَضَع أحدٌ حجراً على حجر، ولَما قامت الحياة! فما الذي علَيَّ أن أفعله إذاً ؟! ». كانت الغزالة غارقة في دَوّامة من الأفكار التي لا تستطيع الخلاص منها. لم تَعرِف ما الذي يجب أن تفعله. أصدَرَت آهة، والتَفَتَت إلى صغارها الذين لَفّهُم الصمت. قالت لهم:
ـ ما أُريد أن أُخبِركُم به يَصعُب علَيَّ قوله. لا أدري من أين أبدأ بالكلام.
احتَبَسَ نَفَسُها ولم تستطع النُّطق.. وازداد ضَرَبان قلبها:
ـ أوَدّ أن تستمعوا إلى ما أقوله جيّداً، وأن تَحفَظُوه.
أحسّ الخُشوف إحساساً غريزيّاً أنّ هناك خطراً لم يقدروا على معرفته. قلوبهم تَدُقّ بسرعة سَلَبَتهم حتّى القُدرةَ على رَمْش العيون. ما الذي تريد أُمُّهم أن تُخبِرَهم به ؟! لم يفهموا شيئاً، وأخذوا يُحَدِّقون بأُمِّهم حائرين!
قالت الغزالة:
ـ في وُدّي، بعد أن تسمعوا ما أقول، أن تُثبِتوا لي أنّكم قد صِرتُم كباراً يمكن أن تتحمّلوا أيّ حقيقة حتّى لو كانت مُرّة!
ترى.. ما الذي وراء هذه المقدّمة الغريبة ؟! لابدّ أنّه أمر مهمّ لكي تُمَهِّد له هذا التمهيد. أنفاسُهم تصعد بصعوبة من شدّة الارتباك، وربّما شعروا بالدَّوار. قَشعَرِيرة سَرَت في جلودهم، وأحسُّوا وهم تحت الشمس ببرودة خفيفة، فبدأوا يرتجفون.
الريح ساكنة لا تَهُبّ، ولا تتمايل الأغصان. توقّفت الطيور عن التغريد، وامتنع ماء الساقية عن تَرانيمِه، وانقَبَض قلب المرج. قالت الغزالة:
ـ الحياة فيها كثير من العَقَبات والمَطَبّات، والدهر يُخبّئ أنواعاً من البلاء. أحياناً تَحدُث حوادث لا مَفرَّ منها.فَقَدَ الصغار قُدرَتَهُم على التحمّل، قالوا:
ـ ماما.. ما حقيقة الأمر ؟! ما الذي تريدين قولَه ؟! كلامُكِ ليس فيه رائحتُه التي نعرفها!
انحدرت الدموع على خدّ الغزالة النجيبة رغماً عنها، فاحترقت قلوب الأطفال:
ـ آه.. لماذا تبكين يا ماما ؟!
هبّت الريح مبتعدة لكي لا ترى هذه اللحظات الباكية المُۆلمة، ولكي يخلو الجوّ للغزالة أن تحكي مع صغارها كما تريد. وكان صعباً على المرج أيضاً أن يتحمّل كلّ هذا القلق والاضطراب الذي اشتعل في قلوب الخشوف الصغار.
لقد اتّخَذَت الغزالة قرارَها، وعزمت أن تذهب إلى الميعاد. لا تستطيع أن تتناسى الرجل الرۆوف. قلبها لا يُطاوِعُها على البقاء هنا، قلبها يكره الغدر.
قال لخُشُوفها:
ـ أدري أنّ تصديقه صعب عليكم، لكن يجب منذ اليوم أن تتعوّدوا على العَيش بدوني، وأن تعتمدوا على أنفسكم. عليكم مواجهة مشاكل الحياة!
فَجأةً.. شعروا أنّ الدنيا قد انهارَت على رۆوسهم، وأنّ قلوبهم توقّفت عن الضَّرَبان، واحتَبَسَت أنفاسهم في صدورهم، وصار طعم أفواهِهِم مُرّاً كنبات العَلقَم.
قالوا غير مُصَدِّقين:
ـ تريدين أن تتركينا ؟!
قالت الأُمّ بتأوّه يزداد ثِقلُه على قلبها لحظةً بعد لحظة:
ـ نعم.. وإلى الأبد!
بكى الصغار. حاولت الأُمّ أن تتغلّب على انفعالها، وأن تُهدّئ مشاعر الصغار. ليس سهلاً أن تُسيطر على أعصابها في هذه اللحظة الملتهبة، لكنّها حاولت أن تَضبِط عواطفَها الهائجة بأقصى ما تستطيع. دَعَت صغارَها إلى السُّكوت، ثمّ قالت تحكي لهم:
ـ كنتُ أشرب الماء عند النبع مع قطيع الغزلان لمّا دَوّى صوتُ سنابك فرسِ الصياد فتفرّقنا مذعورين. من سوء حظّي أنّ الصياد قد اختارني من بينهم هدفاً له. مرّت مدّة ثقلية من المُطارَدَة والفرار المُرهِق. كنتُ على وَشك أن أقع في يد الصياد عندما رأيتُ رَجُلاً طيّباً، فاستَجَرتُ به لاجئةً إليه.
رجُل كلّه رأفة ومحبّة وحنان. أجارَني الرجل الرۆوف، وحاول إرضاءَ الصياد بكلّ وسيلة لشراء حريّتي. ورَفَضَ الصياد بوَقاحة وعناد. رفض تَخلِيَتي، ورفضَ بيعي. عندئذ طَلَب منه الرجل الرۆوف أن يأذَن لي بالمَجيء إليكم لأراكم للمَرّة الأخيرة وأُوَدّعَكُم. ولإقناع الصياد بهذا الاقتراح تَعَهّد الرجل الرۆوف أن يكون هو خادماً للصياد عِوَضاً عنّي، إذا أنا لم أرجِع إليه.
كان الخُشوف الصغار يستمعون إلى حكاية أُمّهم بدموع وآهات. ارتَعَبُوا خائفين من فكرةِ أنّ أُمَّهم تريد أن تُفارِقَهم، واشتدّ في داخلهم الهَيَحان. إنّه شيء يُشبه عاصفة تريد أن تُهاجِم المرج.. فتُدمّر الأعشاش، وتَقتَلِع الأشجار.
تأوّهت الغزالة وقالت:
ـ قُولُوا لي إذاً.. كيف أقدر أن أخُون الرجلَ الرۆوف وأغدِر به ؟!
قال الخشوف ببكاء وهَيَجان:
ـ لكن.. كيف سنكون نحن يا أمّاه ؟! أنتِ غير مضطرّة أن تذهبي إلى هناك. أنتِ حُرّة طَليقة، أنت معنا الآن. لا شيء يقدر أن يَجبُركِ على الذَّهاب.
قالت الغزالة:
ـ أجَل، شيء واحد يَجبُرُني على أن أذهب.
سأل الصغار:
ـ ما هذا الشيء يا أُمّاه ؟!
قالت الغزالة:
ـ الوفاء بالعهد.
وَقَع الخُشوف يُقبِّلون يدَ أُمِّهِم ورِجلَها. استَعطَفوها ببكاء أن لا تذهب. غير أنّ الغزالة كانت قد اتّخذَت قرارَها، وكان نَحيبُ الأطفال مِثل سهم يَختَرِق قلب المرج.
قالت الغزالة وهي تُحاول أن تُهدّى خُشُوفَها وتَجبُر خاطرَهم:
ـ لقد فاتَ الأوان.. يجب أن أذهب. عليكم أن تتعلّموا كيف تَقِفُون على أرجُلِكم بأنفسكم، وأن تعملوا بفكر وتدبير.
كانت دموع الصغار مثل مطر الربيع، وجَزَعُهم يزداد لحظةً بعد لحظة. قَبَّلَت الغزالة أطفالها بقلب محزون، وصوتُ بكاء الصغار يَهُزّ المرج، وكانت تبكي عليهم طيورُ السماء.
أوصَت الغزالة أطفالَها بقلب يُمزّقُه الفراق:
ـ أُريد منكم أن يُحافظ كلٌّ منكم على الآخَر جيّداً، ولا تَتركوا أحَدكُم وحيداً مهما حدث. وأُريد منكم أن لا تَتَخَلَّوا عن المُعاملة الطيّبة والقَول الحَسَن في أيّ وقت، وأن تكونوا دائماً مُدافِعين عن الخير. واعلَموا أنّ قلبي معكم على الدوام.
إنّ قلبي إذا يَنبِض فمِن أجلكم يَنبِض، وبِذكراكُم أتَحمّل الأسر في الغُربة.
قال أصغرهم باكياً:
ـ لكن.. لكن يا ماما.. إذا لم تكوني معنا.. أنا.. أنا أخاف من الظُّلْمَة!
قَبَّلَته أُمُّه مرّة أخرى، وأخَذَت تَشمُّه. لاطَفَته، وقالت
ـ أنتَ لستَ وحيداً يا بُنَيّ. أنا معكم. أعيش في قلوبكم الصغيرة. قلوبكم الطيّبة تَدُقّ من أجلي ليلاً ونهاراً. سآتيك كلّ ليلة في المنام، أُنشِد لك تَرنِيمَة، وأحكي لك قصّة. أحكي لك عن الأيام التي كنّا فيها معاً، حكاية يوم ولادتك التي لا تَغيب عن بالي. كم كنتُ فرحانة بولادتك! لم أملِك نفسي من الفرح!
قال المرج للغزالة:
ـ أولادُكِ صاروا كباراً، وعليهم أن يَتكيَّفُوا مع ظروف الحياة.
قال الغزالة:
ـ صحيح.. كما تقول.
قال خِشف:
ـ ما قيمة الحياة بدونك ؟! بقربكِ يا ماما يمكن أن نَظَلّ على قيد الحياة، وأن نعيش.قالت الغزالة:
ـ حياة كلّ غزال وغزالة لابدّ أن تنتهي في يومٍ ما. لكنّ الموت ليس آخر شيء. الحياة تظلّ مستمرّة، حتّى بدون غزلان المرج. إنّها تجري كالنهر المُتدَفّق. علينا أن نحيا بكلّ وجودنا ما دُمنا أحياء، وأن نستثمر لحظاتنا لتحسين وضع الدنيا التي نَعبُر فيها. الحياة جميلة، كالعسل اللذيذ الذي يجد حلاوتَه كلُّ فم.. غيرَ أنّ الحياة فيها صعود وفيها هبوط. أحياناً تصير الحلاوة مرارة، وفي أحيان أخرى تتحوّل المرارة حلاوة. لكن يجب أن لا ننسى أنّ الخشوف الذين يَتغَلّبُون على مَصاعِب الحياة وينجحون هم الذين يعيشون ظروف حياتهم بواقعيّة. قلوبهم مُستعدّة لتقبّل واقعيّات الحياة، وهم يحصلون في الحوادث على تجارب جديدة نافعة.
اقترب النسيم منهم وقال:
ـ مِثلَما يأتي الربيع بعد الشتاء فتكون الأرض خِصبَة مُثمِرة بنور الشمس ومطر الربيع، وتُنسى أيّام الشتاء الباردة ولياليه.. فكذلك تأتي ـ بعد أيّام الضِّيق ـ أيّام فرح وسرور. المسألة تحتاج فقط إلى صبر وتحمّل.
تحرّكت الغزالة ماشية، فجَزِع الصغار. اعترضوا طريق أمّهم.
قالت لهم الغزالة:
ـ إحلِفوا لي أنّكم لن تَتْبَعُوني. أخاف عليكم من الأخطار؛ فذلك الصياد له قلب من حجر.
لكنّ الخُشوف لم يَتَخلّوا عن أمّهم، ولم يُصغُوا إلى ما قالت.
انفَطَر قلب الريح من بكاء الصغار. الريح لا تستقرّ.. التَفَّتْ حول نفسها وهبَّتْ صاخبة، وثار في المرج غُبار ناعم. خافت طيور السماء، وظنّت أنّ السماء قد انقلبت. نظرت السماء إلى المرج. لا يُرى في المرج شيء. كلّ شيء يلفّه الغبار. دفعةً واحدة انتبهت الريح، وأخذت تَلُوم نفسَها: « ما الذي تفعلين ؟! هُبوبُكِ العاصفُ هذا سيُوقِع الأعشاش من الأغصان، وسيَقلَع الأشجار الصغيرة! ». عاد الهدوء.. وعاد كلّ شيء إلى ما كان عليه، فلا يُسمَع غير بكاء الخُشوف الصغار.
رغم هذه المُعاناة.. اتّخَذت الغزالة طريقها، تاركةً صغارَها وراءها، وراحت تبتعد عن الأجَمَة.. وتبتعد.
في الطريق.. بكت الغزالة بدون إرادتها، وجَرّها الحزن الذي تَغَلغَل في كلّ وجودها إلى النَّحيب. الريح هابّة مع الغزالة تُوصِيها بالصبر. تأوّهت الغزالة بعيون تُبلّلها الدموع، وقالت:
ـ أيّتها الريح، يا رفيقةَ دربي، لا تُهمِلي صغاري. إحمِلي لي أخبارَهُم كلّ صباح، وأوصِلي لهم رسالتي. أملي ـ بَعدَ الله ـ فيك.
وَعَدَتها الريح بذلك، وطَمأنَتها أنّها لن تغفل عن الصغار. كانت الغزالة تتكلّم مع الريح لمّا سَمِعَت فَجأةً صوتَ أطفالها من بعيد، وهم يَلحَقون بها مسرعين، ويقتربون منها اضطرّت الغزالة للتوقّف. نظرت وراءها. صغارُها يركضون إليها بأقصى سرعتهم وهم يُنادُونها. رَجَف قلب الغزالة. مرّة أخرى طاوَعَت عواطفَها. إنّ عواطفها هذه يمكن أن تمنعها من الذَّهاب!
وصل الصغار إلى أمّهم بأنفاس مُتقَطِّعة، والتَفُّوا حولها. قالت لهم الغزالة:
ـ أمَا وَعَدتُموني يا أولاد ؟!قال الخِشف الأكبر:
ـ لا نستطيع أن نَدَعكِ وحيدة في هذا الظرف القاسي يا أمّاه.
توسّلت إليهم الغزالة:
ـ خَطَرٌ هناك. مكان لا أمان لكم فيه!
قال الخُشُوف بإصرار:
ـ نحن لا نريد الراحة. نريدكِ أنتِ، نريد أن نَظَلّ معك!
لم ينفع الغزالةَ توسُّلُها. الصغار عازمون على ما يريدون. لقد وَطَّنوا أنفُسَهم على خَوض المخاطر من أجل أن يكونوا مع أُمّهم.
أدركت الأُمّ ذلك، فأخذت تتوسّل إلى الريح:
ـ قُولِي شيئاً يا ريح!
قالت لها الريح:
ـ توكّلي على الله، فرُبّما كان في هذا مصلحة.
قالت الغزالة لأطفالها:
ـ أسرِعوا إذاً؛ فقد تأخّر الوقت كثيراً.
سار الصغار وأُمُّهم مسرعين مع الريح صوبَ المصير المجهول؛ فمِن الممكن أن تتعرّض حريّتهم في أيّ لحظة للخطر. ورغم هذا أحسّوا بالعَظَمة لأنّهم مع أمّهم التي لم يَتركوها تُواجِه مِحنَتها بمُفردِها. شعروا كأنّ قاماتِهم قد طالت، في الوقت الذي كانت فيه قلوبهم في قلق من الآتي الغامض الذي لا يعرفونه. وكانت الغزالة تدعو في قلبها أن لا يُصاب صغارُها بأذى.
عَبَروا مُنعَطفات وطُرُقاً مُتَعجرِّجَة طويلة، وهم يَتَصبَّبون عَرَقاً تحت الشمس. عَطَشَ الصغار.. وما من نَبعِ ماءٍ في الطريق. قلوبُهُم تضطرب في صدورهم من شدّة الهَيَجان ومن كثرة الجَرْي.. وضَعُفَت أرجُلُهم عن المشي.
قالت لهم الغزالة:
ـ لم يَبق من الطريق شيء، إذا تَحمّلتُم قليلاً، وصلنا سريعاً إلى الميعاد.
تآليف حسين زاهدي
المصدر: شبکة الامام الرضا عليه السلام
يا ضامن الغزالة!(آهو) ۵