يا ضامن الغزالة!(آهو) ١
هذه القصة التي نقدّمها اليوم لأعزائنا اليافعين من زائري الإمام الرضا عليه السلام ومُحبّيه.. هي صورة من صور الأدبيات الرضوية المتنوّعة التي كُتبت شعراً ونثراً على مدى قرون طويلة، وبلُغات متعددة. وقد جاءت لتعبّر عن مضمون لقب « ضامِن الغَزالة » الذي عُرف به الرضا من آل محمد عليهم السلام في هذه الأدبيات.
وقصة « تحيّةً يا ضامنَ الغزالة » هذه ترجمة لقصة بالفارسية عنوانها « آهُو نامه » ، أي « كتاب الغزالة » أو « حكاية الغزالة ». وقد نقلناها إلى العربية بعد إجراء تعديل في مواضع منها وإضافة عناصر جديدة جَعَلَتها أوفر ارتباطاً بالرأفة الرضوية وأصرح في التعبير. نرجو أن يجد فيها أحبابُنا اليافعون ـ والبالغون أيضاً ـ ما يُۆنس القلوب، ويفتح العقول على مزيد من نوافذ الاتّصال المعنوي بجمال الإمام الرضا عليه السلام.
في زمان مَرّ.. كان صياد يعيش هو وأُسرتُه على صَيد الغِزلان وبيعها في السوق. رجل طويل القامة.. كبير الوجه، خشن العِظام، ذو صدر عريض وساعد مفتول، وله نظرات حادّة نافذة. يكفي أن ينظر ولدُ الغزالة إلى هذا الرجل ليرتجف خوفاً منه. وشارباه الغليظان يزيدان منظرَه هيبةً ووحشة.
تعوّد إذا اراد الخروج إلى الصيد أن يحمل خلفه قوسَه الكبيرة، ويعلّق على متنه جَعبَة السِّهام.. ثمّ يضع قدمه في رِكاب فَرَسِه ويُعدِّل جلسته على السَّرج ويمضي بفرسه الجامح المُتمَرِّ صوب المَرْج.
يضرب الفرسُ الأرض بحافِره، يَصهَل، لا يستقرّ.. يقف على قدَميه، وعيناه السَّوداوان تلتمعان تحت ضوء الشمس. عندها يجري بقوائمه الأربع، والريح تَعبَث بشَعر رقبته الطويل. يجري وكأنّه في سباق مع الريح باتّجاه المَرج. إنّه يجري كعاصفة تُثير الغُبار، ويَطِنّ في أُذن المَرج صوتُ سَنابِكه التي تنهب الأرض بطَقطقَة شديدة مُرعِبة.
تسمع حيوانات المَرج ضَوضاء سنابك الفرس. إنّ خطراً كبيراً يقترب! تُطلِق الحيوانات سِيقانَها للفرار، ويحتمي كلٌّ منها في أيّ ثقب قريب، أو تزحف إلى أوجارها لتأمَن من أذى الصياد الذي يسحق ـ عندما يُلاحِق صَيدَه ـ كلَّ شيء تحته.
إنّ الحياة في الأسْر والقيود لا قيمة لها إطلاقاً بالنسبة إلى حيوانات المَرج، والحرية هي التي تَحكُم كلَّ شيء. ويومٌ في الحرية لا تُساويه مِئة سنة من الحياة في أسر القيود. ولهذا تَقبَع هذه الحيوانات في جُحورها وأوجارها إذا ما أحسّت بحُضور الصياد، حابسةً أنفاسَها حَذَراً منه.
في ذلك اليوم خرج الصياد كعادَتِه للقَنْص.. راكباً فرسَه السريع، وتوجّه صوبَ السهل. وكانت زوجته الخيّرة ـ وقد ضَمّت إليها ولَدَيها الصغيرَين ـ تُحَدِّق في الغُبار الذي أثاره في الهواء جَرْيُ الفرس، ولا يَدَعُها ترى الصياد بوضوح.
الشمس مُتألّقة في زُرقَة السماء الواسعة، والطيور المُغرِّدة تُحَلِّق مُفرِدَةً أجنحتَها أو تطير بين أغصان الشجر الخُضر وتَصدَح بأنغامها الجذّابة.. كأنّها ألحانٌ جميلة عَذبة تُۆنِس القلب في هذا الصباح الرائق الجميل.
تمتزج تَرانيمُ ينابيع الماء والجداول بهَمَسات النسيم المُطرِبة، فتتراكض فِئرانُ المرج وأرانُبه بين الأعشاب، وتقف أحياناً على قدمَيها لتَتطلّع بعيونها النافذةِ البصر إلى ما حولها، وتملأ صدرها بالهواء النقي.
تطير الفَراشات بأجنحتها الملوّنة مُتَنقِّلة بين الأزهار، والنحلُ الذهبي يمتصّ رَحيق الأزهار الحُلو.. وأزيزُ أجنِحَتِها يَطِنّ في المكان. وتَهُبّ نسمة بين الأعشاب، فتَتَمايل الأزهار بدلال.
إنّه يومٌ ناعم رَغْد، كان السهل يتفرّج فيه بدهشة على هذا الجَمال الرائع وعلى هذه البهجة السارّة. الغِزلان متجمّعة حول نبعِ ماءٍ نقيّ كأنّه مِرآة صافية تنعكس فيه صورتُها. غِزلان جميلة حمراء اللون مُنقّطَة بدوائر سُود صغيرة. كان بعضُها قد حَنى رأسَه على النبع ليشرب لمّا سَمِع المرجُ فَجأةً قَعقَعَةَ سنابك فرس الصياد.. وكأنّما هو نَذيرُ الموت!
فَزَعَ المرج خوفاً، ونظر إلى الغِزلان عند النبع قلقاً عليها. وسمعت الغزلان قَعقَعة السَّنابك هذه التي جاءت في وقتٍ غير مناسب، فجَفَلَت وتَراكضَت هنا وهناك. ارتَجفَت سِيقانُها الدقيقة النحيلة خوفاً من الوقوع في أسر الصياد وحِبالِه، وجرى الرُّعب في عُروقِها مَجرى الدم، وقلوبُها الصغيرة تَدُق كطُبول كبيرة.
تَفرّقَت الغِزلانُ بارتباك، والفرس يَعدُو خلفها أسرَعَ ما يستطيع. الصياد واضِعٌ سهمَه في القوس ليَرمي إحدى الغزلان. كانت طيورُ السماء قد خَفَضَت مَناقِيرَها خوفاً، فلا يُسمَع إلاّ صوتُ سنابك الفرس الرهيبة، وصوتُ هُبوب الريح.
تأخّرت غزالةٌ خائفةٌ عن قطيعها الذي فَرّ مُتفَرِّقاً. لم تَستَطيع أن تَلحَق به، وأخذت تَتَراكَض يميناً ويساراً. ورآها الصياد فشَخّصها هدفاً له، وراح يُلاحِقُها بأسرعَ من الريح. ثَبّت الصياد سهمَه في قوسه صائحاً:
ـ لابُدّ أن أُمسِك بكِ وأنتِ حيّة يا غزالةَ حظّي! أنتِ أسرع غزالة في هذا المرج. سأربِطُك.. لن تستطيعي النجاة من حبالي. أُركُضي إذاً وأنا أركُض.. وسنرى!
أسرعت الغزالة البائسة.. وأسرع خلفَها الصياد. في تلك اللحظة الحَرِجَة انفَتَحَ قلبُها على الله بِمُناجاة: « أيُمكِن لي يا ربِّ أن أنجُو ؟ هل أرى عيون أطفالي البريئة مرّةً أُخرى ؟ أُريد يا ربّ أن أكون خَيمَة فوقَ رۆوسِهِم ».
لكنّ المُۆسِف أنّ الحادثة التي تُريد أن تقع تقول شيئاً آخَر، فيه رائحةُ الفراق، رائحةُ البُعد عن الوطن، رائحةُ الغياب عن الولد، رائحة الوِحدة والأسْر والألم.
كانت الغزالة تَعْدُو مُضطَرِبة حينَ تَأوّهت: « وَداعاً يا أيامَ الحرية الجميلة! وَداعاً يا أياماً كنتُ أختالُ فيها خلالَ المَرج وأجري مع النسيم. وَداعاً يا أيام الشُّرب من منبع الماء العَذب. أقضِم العُشب في ظلال الأشجار بمَرَح لا حدّ له، وأنظُر إلى صغاري يَتَقافَزُون ويلعبون، والنسيم يُنشِد لي أنشودة الحياة. وداعاً.. فإنّ أياماً أُخرى قادمة، يقول قلبي إنّها أيام شُۆم. أيام لا أرى فيها شروق الشمس في عيون صغاري الجميلة. أيام طافحة بالحزن، مليئة بالسُّقم والألم.. أيام أتمنّى فيها الموت ».
بدأت الغزالة تبكي. نزلت قطرات دمع من عينها الوسيعة البرّاقة. ورأى النسيم دموعَ الغزالة فتَوجّع لها قلبُه، وهَبّ هبّةً شديدة. نادى الغزالةَ صائحاً:
ـ
إهرُبي.. اهرُبي أيتها الغزالة. لا وقتَ للتردّد والتأخّر. أنتِ تَقدِرين أن تَنجي. فكّري بأطفالك. عيونهم على الدرب..
لا تَدَعيهم ينتظرون. اهرُبي، اقفِزي.. أسرَع، وأسرَع. اذهبي أيّتها الغزالة.. أيتُها الأُمّ.. أيّتُها الحَنُونة.
ضَعُفَت أنفاس الغزالة. وفقدت قُدرتَها على الجَري. ارتَجَفَت ساقاها الرقيقتان، ومن المحتمل أن تَنكَسِرا في أيّة لحظة.
اشتَدَّت العاصفة، وزاد ثَوَران الغبار.. وصَعُبَت الرۆية على الصياد القاسي القلب. صَهَل الحصان في الهواء. ركَّزَت الغزالة كلّ طاقتها في يَدَيها ورجلَيها راكضة. تأوّهَت من عُمق روحها: « ماذا لو لم يكن هذا الصياد الطامع بأرواح الغِزلان ؟! رجُل قلبُه مصنوع من حَجَر.. لا رحمةَ له. قلبه البارد العَبُوس لا يتأثّر لدموع وآهاتِ خِشْف لا أمّ له! تَعْساً للصياد الحَقُود، تَعْساً للأسْر والخوف، تَعساً للفِراق والحِرمان، تَعساً لهذه اللحظات الرهيبة، تعساً لـ... ».
أظلَمَت عَينا الغزالة، ودارَ رأسُها. انحَنَت ساقُها كغصن رقيق، وأخذت تَنزَلِق مُتَدَحرِجة على الأرض. طَلَعَت مِن داخِلها آهة: « الوَداع! الوَداع يا صغاري، الوداع... ».
شعرت الغزالة بزَفير أنفاسِ الحصان الحارّة المُتسارعة تَصل إلى ساقها مِن خلفها، وسَمِعَت صوتَ الحبل المُلتفّ فوق رأسها بشكل حَلقَةٍ تدور في الهواء، مثل صقر كبير يكاد يَخطَفُها بمَخالِبِه الحادّة القويّة. إنّ كلّ وجودها الآن ذائب في الألم، وكلّ عيونها دموع.
حَثّتها الريح:
ـ إنهَضي أيتُها الغزالة السريعة الخفيفة الساقَين. انهَضي وأفلِتي من الأسر. ما يزال هناك أمل. فكّري في صغارك المُتَلهّفين لعَودتك.
وفي لحظة تَخَيَّلَت الغزالة أطفالَها الصغار. كانت على وَشك الاستسلام للأسر عندما فَجَّر كلامُ الريح شرارةَ الأمل في داخلها. نهضت واقفة، وفَرَّت بسرعةِ الخيال قبل أن تصل إليها يدُ الصياد. مرّةً أخر حَثّ الصياد فرسَه بوجهٍ مُحمَرّ من الغضب. ما كان يظنّ أن تحتالَ الغزالة عليه وتَفِرّ منه ـ بعد أن تصوّر أنّ الأمر قد انتهى ـ مُبتَعِدة عنه كلَمحِ البَصَر، فانطلق وراءها يُطارِدُها بعناد.
تَحَيّرَت الريح من هذه المُطارَدة ومن هذا الفرار. هبّت الريح مع مَجرى سِيقان الغزالة، ودَعَت لها من صميم قلبها الرحيم أن تجد طريقاً للخلاص، وتصل إلى صغارها المُتَشرِّدين.
ركضَ الفرسُ بعزمٍ راسخ، فإذا هو يزداد قُرباً من الغزالة في كلّ لحظة. إنّ رجاء الغزالة هو أن تنتهي هذه اللُّعبة الرهيبة لمصلحتها، لكنّ الصياد كان عازماً عزماً بَدا معه أنّ الخلاص منه نوع من الخيال!
الغزالة تَتَقافَز ميناً ويساراً.. تركض حائرةً مذعورة. كانت تبحث عن مَأوى تلجأ إليه حين امتلأ قلبُها فَجأةً بالنور وغَمَرَها السرور، فاستعادت ساقاها شيئاً من العزيمة:« آه.. يا رَبّ! ما الذي أراه هناك ؟! ». الغزالة تَعدُو بسرعة مُذهِلة جعلت الفرس يَتَخلّف عنها قليلاً. هَمَسَت مع نفسها:« ذلك الرَّجُل! ذلك الرجُل البَهيُّ الوجه.. الرجل الرۆوف..! ». اتّخَذَت طريقَها صوب الرجل لتصل إليه قبل أن يلحق بها الصياد. الغزالة هَمَسَت للريح:
ـ ذلك الرجل الذي تَطُوف حوله الفَراشات.. هو رسول الحرية.
هَبّت الريح قائلة:
ـ إنّه كما تقولين.. ولكنْ أسرِعي.
وأسرعت الغزالة تارِكةً الريحَ تجري من ورائها.
تأليف حسين زاهدي
المصدر: شبکة الامام الرضا عليه السلام
يا ضامن الغزالة!(آهو)٢
يا ضامن الغزالة!(هو) ٣
يا ضامن الغزالة!(هو) ٤
يا ضامن الغزالة!(هو) ۵