الامام الحسن ورعاية مصلحة الاسلام العليا في أيام خلافته (3)
وجد الإمام ( عليه السلام ) أن عليه - في سبيل بيان الأسباب والعلل التي ألجأته إلى عقد معاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان - أن يكشف الحقائق ويظهر الحق لتتمّ الحجة البالغة في إدراك حقيقة المصلحة الإسلامية العليا الكامنة في هذا الصلح. وقد تواصلت بياناته وخطاباته في هذا السبيل إلى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة.
وممّا يروى في ذلك أن سليم بن قيس قال: قام الحسن بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) على المنبر حين اجتمع مع معاوية، فحمد الله واُثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيّ الله، فأقسم بالله لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني، لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، ولما طمعتم فيها يا معاوية، ولقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو أعلم منه، إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل. وقد ترك بنو إسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون أنّ هارون خليفة موسى، وقد تركت الأمّة عليّاً ( عليه السلام ) وقد سمعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول لعلي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير النبوة، فلا نبي بعدي. وقد هرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من قومه وهو يدعوهم إلى الله حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يا معاوية. وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكانوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعواناً. وقد جعل الله النبي في سعة حين فرّ من قومه لمّا لم يجد أعواناً عليهم، كذلك أنا وأبي في سعة من الله حين تركتنا الأمّة وبايعت غيرنا ولم نجد أعواناً. وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً.
أيها الناس، إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلاً من ولد النبي غيري وغير أخي".
وعن حنان بن سدير عن أبيه سدير عن أبيه عن أبي سعيد عقيصا قال: لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته، فقال ( عليه السلام ): "ويحكم! ما تدرون ما عملت. والله للّذي عملت لشيعتي خير ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت. ألا تعلمون أني إمامكم، ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنصّ من رسول الله عليّ"؟! قالوا: بلى . قال: "أما علمتم أنّ الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران ( عليه السلام )، إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً؟ أما علمتم أنه ما منّا أحد إلاّ يقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلاّ القائم (عج)؟ الذي يصلّي خلفه روح الله عيسى بن مريم ( عليه السلام )، فإن الله عزّ وجلّ يخفي ولادته ويغيّب شخصه لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج. ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير".
عن زيد بن وهب الجهني قال: لما طُعن الحسن بن علي ( عليه السلام ) بالمدائن أتيته وهو متوجّع، فقلت: ما ترى يابن رسول الله، فإنّ الناس متحيّرون؟ فقال: "أرى - والله - أن معاوية خير لي من هۆلاء. يزعمون أنهم لي شيعة. ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي. والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وأومَّن به في أهلي، خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي. والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً. والله لئن أُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا اسير، أو يمنّ عليّ فيكون سنّة على بني هاشم آخر الدهر، ولمعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت". قال: قلت: تترك يابن رسول الله شيعتك كالغنم ليس لها راع؟! قال: "وما أصنع يا أخا جهينة؟ إني والله أعلم بأمر قد أدّى به إليّ ثقاته; أنّ أمير المۆمنين ( عليه السلام ) قال لي ذات يوم وقد رآني فرحاً: يا حسن، أتفرح؟! كيف بك إذا رأيت أباك قتيلاً؟ كيف بك إذا ولي هذا الأمر بنو اُمية؟ وأميرها الرحب البلعوم، عاذر، ثمّ يستولي على غربها وشرقها، يدين له العباد ويطول ملكه، يستنّ بسنن أهل البدع والضلال، ويُميت الحق وسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، يقسّم المال في أهل ولايته، ويمنعه من هو أحق به، ويُذلّ في ملكه المۆمن، ويقوى في سلطانه الفاسق، ويجعل المال بين أنصاره دولاً، ويتّخذ عباد الله خولاً، يدرس في سلطانه الحق، ويظهر الباطل، ويقتل من ناواه على الحق، ويدين من والاه على الباطل".(1)
ويروى أيضاً أنه بعد أن تمّ التوقيع على الصلح، قدم معاوية إلى الكوفة للاجتماع بالإمام الحسن ( عليه السلام )، حيث ارتقى معاوية المنبر ليعلن - متحدّياً كل المواثيق والعهود والاعراف - أنه يسحق بقدميه كل الشروط التي صالح الحسن عليها، وخاطب الناس المحتشدة في مسجد الكوفة قائلاً: والله إني ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وأنتم له كارهون. ألا وإن كلّ دم أصيب في هذه الفتنة فهو مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين.
وهنا تململ أصحاب الإمام الحسن ( عليه السلام ) وأتباعه، وتجرّأوا عليه ووصفوه بمذلّ المۆمنين، فصبر سلام الله عليه صبراً جميلاً، وطفق يبيّن لهم الحقائق التي خفيت عنهم في أجواء الانفعال والعاطفة والغضب الذي اعتراهم من تحدّي معاوية لهم، ونقضه لوثيقة الصلح وتوهينه للإمام الحسن ( عليه السلام ) وأصحابه.
وممّا روي عنه ( عليه السلام ) أنه قال لبشير الهمداني عندما لامه على الصلح: "لستُ مُذلاًّ للمۆمنين، ولكني معزّهم. ما أردتُ لمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تباطۆ أصحابي ونكولهم عن القتال".
قال ( عليه السلام ) ذلك لبشير هذا، لأنه كان أول المرتعدين من القتال. وقال لمالك بن ضمرة عندما كلّمه بشأن الوثيقة: "إني خشيت أن يُجتثّ المسلمون عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين داع".
وقال مخاطباً أبا سعيد: "يا أبا سعيد، علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية".
وقال له حجر بن عدي، وكان وجهاً من وجوه صحابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصحابة علي وابنه الحسن ( عليه السلام )، عندما خاطب الإمام الحسن ( عليه السلام ) بعد أن سمع كلام معاوية على المنبر وهو يتنصّل من كل الشروط التي وقّعها مع الإمام ( عليه السلام ): أما والله، لقد وددت أنك متّ في ذلك، ومتنا معك، ثم لم نَرَ هذا اليوم، فإنّا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا. إلاّ أن الإمام أرسل إليه بعد انصرافه إلى بيته وقال له: "إني قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كل إنسان يحب ما تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاءً عليكم".(2)
وعن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: حدثني رجل منّا قال: أتيت الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقلت: يابن رسول الله; أذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً ؟ ما بقي معك رجل. قال: "وممَّ ذلك؟" قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية، قال: "والله ما سلّمت الأمر إليه إلاّ لم أجد أنصاراً، ولو وجدت انصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكنّي عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً; إنهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، ويقولون لنا إن قلوبهم معنا، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا". قال: وهو يكلّمني إذ تنخّع الدم، فدعا بطست فحمل من بين يديه مليء مما خرج من جوفه من الدم. فقلت له: ما هذا يابن رسول الله؟ إنّي لأراك وجعاً! قال: "أجل، دسّ إليّ هذا الطاغية من سقاني سمّاً، فقد وقع على كبدي وهو يخرج قطعاً كما ترى".(3)
ولقد أشار الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) إلى هذه المصلحة الإسلامية العليا في صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية بن أبي سفيان بقوله: "والله، للّذي صنعه الحسن بن علي ( عليه السلام ) كان خيراً لهذه الأمة ممّا طلعت عليه الشمس".(4)
المصادر:
1 - الطبرسي، الاحتجاج 2: 288 - 291.
2 - احمد بن اعثم، الفتوح 4: 161 و 166.
3 - الطبرسي، الاحتجاج 2: 291.
4 - الكليني، الكافي 8: 330.
الامام الحسن ورعاية مصلحة الاسلام العليا في أيام خلافته (1)
الامام الحسن ورعاية مصلحة الاسلام العليا في أيام خلافته (2)