الامام الحسن ورعاية مصلحة الاسلام العليا في أيام خلافته (2)
رأى الإمام ( عليه السلام ) أن مدار مصلحة الإسلام العليا بعد خذلان جيشه له وتفرقه عنه، يقوم بعقد معاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان; وفي هذا السياق ينقل لنا المۆرخون أن معاوية لمّا أرسل خيله لقتال الجيش الذي يقوده عبيد الله، ردّها أهل العراق على أعقابها، وبمجيء الليل أرسل معاوية رسالة إلى عبيد الله جاء فيها أن الحسن قد أرسلني في الصلح وسلم الأمر لي فإن دخلت في طاعتي الآن تكن متبوعاً خير لك من أن تكون تابعاً بعد غد، ولك إن اجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم أعجّل لك في هذا الوقت نصفها، وعندما أدخل الكوفة أدفع لك النصف الثاني.
ويدعي أكثر المۆرخين أن عبيد الله انسلّ من قاعدته، ودخل عسكر معاوية ومعه بضعة آلاف ممن كانوا معه، فوفّى له بما وعده، وانتبه الناس بدخول النهار، فانتظروا عبيد الله ليصلي بهم فلم يجدوه، فصلّى بهم قيس بن سعد، ولمّا تأكدوا من خبره خطبهم قيس، وذكر عبيد الله فنال منه، وأمرهم بالصبر والثبات، وعرض عليهم الحرب ومناهضة معاوية مهما كان الحال، فأجابوه لذلك، فنزل عن المنبر ومضى بهم لقتال معاوية، فقابلهم جيشه بقيادة بسر بن أرطاة، وبثّ دعاته بين أصحاب قيس يذيعون أن أميرهم عبيد الله مع معاوية في خبائه، والحسن بن علي قد وافق على الصلح فعلام تقتلون أنفسكم. وهنا يدّعي المۆرخون أن قيساً قال لأهل العراق: اختاروا إحدى اثنتين: إما القتال بدون إمام، وإمّا أن تبايعوا بيعة ضلال فقالوا بأجمعهم: بل نقاتل بدون إمام، ثم اتّجهوا نحوهم واشتبك الفريقان في معركة ضارية كانت نتائجها لصالحهم، وتراجع بسر بمن معه إلى معسكراتهم مخذولين مقهورين.
وكان موقف عبيد الله من جملة العوامل التي تسببت في تفكك جيش الإمام وتخاذله، وفتح أبواب الغدر والخيانة والتسلّل الجماعي، وتذرع ذوي النفوس الضعيفة والقلوب المريضة أن عبيد الله ابن عمه واولاهم بمناصرته والتضحية في سبيله.
كما كان لغدر عبيد الله بن العباس في نفس الإمام ( عليه السلام ) حزن بالغ وأسىً مرير; لأنه فتح الباب لغيره، وتستّر بغدره وخيانته جميع الطامعين والخونة من أهل العراق، ونشط أنصار معاوية في نشر الترهيب والترغيب في صفوف الجيش، ولم يتركوا وسيلة لصالح معاوية إلاّ واستعملوها، واستمالوا إليهم حتى رۆساء ربيعة الذين كانوا حصناً لأمير المۆمنين ( عليه السلام ) في صفين وغيرها من المواقف; فلقد راسله خالد بن معمّر أحد زعمائها البارزين وبايعه عن ربيعة كلّها.
كما راسله وبايعه عثمان بن شرحبيل أحد زعماء بني تميم، وشاعت الخيانة بين جميع كتائب الجيش وقبائل الكوفة، وأدرك الإمام أبو محمد الحسن ( عليه السلام ) كل ذلك، وصارحهم بالواقع الذي لم يعد يجوز السكوت عنه، فقال: "يا أهل الكوفة، أنتم الذين أكرهتم أبي على القتال والحكومة ثم اختلفتم عليه، وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه، فحسبي منكم لا تغرّوني في ديني ونفسي".
وهنا اطمأن معاوية بأن المعركة لو وقعت بين أهل الشام وأهل العراق ستكون لصالحه، وسيكون الحسن بن علي ( عليه السلام ) والمخلصون له من جنده خلال أيام معدودات بين قتيل وأسير تحت رحمته، وأن السلطة صائرة إليه لا محالة، ولكن استيلاءه عليها بقوة السلاح لا يعطيها الصبغة الشريعة التي كان يحاول التمويه بها على الناس، هذا بالإضافة إلى ما قد يحدث من المضاعفات الخطرة التي ستجعله في ضيق من نتائجها، وذلك لو أُصيب الحسن والحسين خلال المعارك وهما سيدا شباب أهل الجنة، وريحانتا جدهما وأحبّ الخلق إليه بالنصوص المتواترة التي لا يجهلها أحد من المسلمين.
لذلك ولغيره كان معاوية على ما يبدو حريصاً على ألا يتورط مع الحسن بن علي ( عليه السلام ) في الحرب، وإن كان مطمئنّاً لنتائجها، فعرض عليه فكرة الصلح في أولى رسائله، وترك له أن يشترط ويطلب ما يريد، وراح يردد حديث الصلح في مجالسه وبين أنصاره في جيش العراق ويأمرهم بإشاعته، وكاتب القادة والرۆساء به ليصرف أنظارهم عن الحرب، ويبثّ بينهم روح التخاذل والاستسلام للأمر الواقع.
وكانت فكرة الصلح كما ذكرنا مغلفة بلون ينخذع له الكثيرون من الناس، ويفضلونه على الحرب والقتال; فلقد عرضها في رسالته الأولى على الحسن ( عليه السلام ) وأشاعها بين أهل العراق، على ألا يقضي أمراً من الأمور بدون رأيه، ولا يعصيه في أمر أُريد به طاعة الله ورسوله، وترك له مع ذلك أن يقترح ما يريد; كل ذلك لعلمه بأنها ستلقى بهذه الصياغة قبولاً من الكثيرين، وسيتبع ذلك انقسام في صفوف الجيش يضطره إلى الصلح لأنه أهون الشرّين، كما التجأ والده من قبل للتحكيم والرضا بالأشعري حكماً لأهل العراق في مقابل ابن العاص، لأنه أقل خطراً وضرراً من المضي في الحرب، مع انحياز القسم الأكبر من الجيش إلى جانب فكرة التحكيم التي وضعها معاوية، بعد أن ضاق عليه أمره وكاد أن يقع أسيراً بيد الأشتر ومن معه من الجنود البواسل.
وبالاضافة إلى أن فكرة الصلح بتلك الشروط ستكون سلاحاً بيد الخونة من أهل العراق، ستكون أيضاً عذراً مقبولاً لمعاوية لو كانت الحرب وأُصيب الحسنان وخيار الصحابة عند السواد الأعظم من الناس.
وكان الأمر كما قدر معاوية; فقد أدّت فكرة الصلح بتلك الصيغة إلى التشويش والاضطراب في صفوف الجيش، وإلى تسلّل عبيد الله بن العباس وعدد من القادة وزعماء العشائر إلى معاوية واتّصال بعضهم به عن طريق المراسلة، وكان هو بدوره بما لديه من وسائل الإعلام يرسل إلى الحسن بجميع أخبارهم وتصرفاتهم ليقطع أمله من نتائج الحرب، ولا يبقى له خيار في الصلح، وكان الأمر كذلك.
وقال الشيخ المفيد في إرشاده والطبرسي في إعلام الورى: إن أهل العراق كتبوا إلى معاوية بالسمع والطاعة، واستحثّوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن إليه إذا شاء عند دنوّه من معسكرهم أو الفتك به.(1)
وجاء في علل الشرائع أن معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجّار بن أبجر وشبث بن ربعي ووعد من يقتل الحسن بمئة ألف وقيادة جند من أجناد الشام وبنت من بناته، ولمّا بلغ الحسن ( عليه السلام ) ذلك كان لا يخرج بدون لامة حربه، ولا ينزعها حتى في الصلاة، وقد رماه أحدهم بسهم وهو يصلي فلم يثبت فيه.
ولا شك أن معاوية أراد من اغتيال الإمام الحسن ( عليه السلام ) على يد العراقيّين أن يسلم له الأمر، ويخلو له الجو بدون قتال إذا تعذّر الصلح، حتى لا يتحمل مسۆولية قتله وقتل آله وأنصاره تجاه الرأي العام الإسلامي، الذي لا يغفر له عملاً من هذا القبيل مهما كانت الظروف.
ولم يكن الإمام أبو محمد الحسن ( عليه السلام ) يفكر بصلح معاوية، ولا بمهادنته، غير أنه بعد أن تكدّست لديه الأخبار عن تفكّك جيشه، وانحياز أكثر القادة لجانب معاوية، أراد أن يختبر نواياهم ويمتحن عزيمتهم، فوقف بمن كان معه في ساباط، ولوّح لهم من بعيد بالصلح وجمع الكلمة فقال: "فو الله إني لأرجو أن أكون أنصح خلق الله لخلقه. وما أصبحت محتملاً على أحد ضغينة ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا عليّ رأيي. غفر الله لي ولكم وأرشدني وإيّاكم لما فيه محبته ورضاه".(2)
وهنا تنقّح لدى الإمام ( عليه السلام ) موضوع مصلحة الإسلام العليا بدفع أعظم الضررين:
أولهما: الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناۆه وفناء أهل بيته وبقية الصفوة الصالحة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصحاب أمير المۆمنين ( عليه السلام ) وأصحابه هو ( عليه السلام )، وهم حفظة القرآن وسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، والذابون عن العترة الطاهرة، والدعاة الأمناء إلى ولايتهم وقيادتهم.
والثانية: القبول بالصلح وحقن دماء أهل بيت النبوة والعصمة وبقية الصفوة الصالحة من شيعتهم; ليحملوا لواء الدعوة لآل محمد ( صلى الله عليه وآله )، ويصدعوا بالحق أمام محاولات تضييعه وتحريف وتزوير دين الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وآله )، ليتّصل حبلهم بحبل الأجيال اللاحقة، ولتصل إليها معالم الدين الحق، ولتدرك حق أهل البيت ( عليه السلام ) وباطل أعدائهم.
وهكذا اضطر الإمام الحسن ( عليه السلام ) للصلح، وكان نصّ كتاب الصلح بينه وبين معاوية بن أبي سفيان كالآتي:
هذا ما اصطلح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، صالحه على:
* أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه محمد ( صلى الله عليه وآله ) وسيرة الخلفاء الصالحين.
* ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد لأحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.
* أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله; في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.
* أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء بما أعطى الله من نفسه.
* أنه لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) غائلة سراً ولا علانية، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.
شهد على ذلك عبد الله بن نوفل بن الحارث وعمر بن أبي سلمة وفلان وفلان.
ثم ردّ الحسن بن علي هذا الكتاب إلى معاوية مع رسل من قبله ليشهدوا عليه بما في هذا الكتاب.(3)
المصادر:
1 - المفيد، الإرشاد: 190.
2 - الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر 1: 514 - 518.
3 - سيرة رسول الله وأهل بيته 2: 34 - 35، نقلاً عن الفتوح لابن أعثم 4: 195.
الامام الحسن ورعاية مصلحة الاسلام العليا في أيام خلافته (1)
الامام الحسن ورعاية مصلحة الاسلام العليا في أيام خلافته (3)