موكب الحسين يشافي رُقَية
الليل شامل.. وأفراد الأسرة نائمون بعد معاناة كدح النهار. وليالي الصيف الرائقة في « تَبريز » تُضيف إلى النوم مزيداً من الراحة والهناء.
ربّما كانت أسرة « الناصري » الكادحة تُقدِّر أكثر من غيرها قَدْرَ هذه اللحظات وتعرف قيمة نعمة النوم. الصمت هو السائد.. يُسمَع فيه حِسُّ كلِّ حركة أو نَأْمةِ صوت، حتّى لو كانت آتية من بعيد.
نومٌ.. وصمت. وفجأةً انبعَثَت من « رُقيّةَ » صرخةٌ مُفزِعة طَيّرت النوم من عيون أفراد الأسرة، وحتّى من عيون الجيران! أُضيءَ مصباح الغرفة، وراح سكنةُ البيت يَثِبُون من فُرُشِهم. رقيّةُ الشابّة قاعدة على فراشها بعيون يَبرق فيها الرُّعب. وما هي إلاّ لحظات حتّى أُغمي عليها. أخذت تتلوّى، والزَّبَد طافح على شفتيها. شَعَر أفراد الأسرة بالخيبة والاندحار، وهم يتحلّقون حول رقيّةَ وينظرون إليها بفزعٍ وإشفاق. إنّ كارثة مباغتة قد نزلت منهم على الرأس!
فعلوا كلّ ما يقدرون على فعله: أنفَقوا ما كان لديهم من أجل شفاء رقيّة. اقترضوا من هنا وهناك. باعُوا ما يمكن بيعُه من محتويات البيت. حملوها إلى العديد من الأطبّاء المتخصّصين بالأعصاب والأمراض النفسيّة. أمّا وضعها فكان يزداد تَردّياً يوماً بعد يوم. صارت هذه النوبات تعتريها ثمانيَ مرّات في اليوم. كلّهم كانوا يَرمُقون وجه رقيّةَ بالقلق والحزن والتأسّف العميق، ولا يملكون إلاّ أن يَهُزّوا رۆوسهم أو يَضربوا كفّاً بكفّ. وبتوجيهٍ من هذا أو تلك.. أخذوا البُنَيّةَ إلى « كاتبٍ للأحراز » كان يقيم في داخل أزقّة ضيّقةٍ مُلتَوية، لكنّ التحسّن كان بعيد المَنال!
البنت تذوب أمام عيون أعزّائها، وكانت أُسرتها في مأتم مستمرّ. إنّ كدح الأهل في تنشئةِ ابنتهم قد وصل بها إلى هذه السنّ التي تتهيّأ فيها للزواج وتكوين الأسرة وبلوغ الآمال.. فإذا بها تهوي فجأةً إلى هذا المصير! ما الذي ينبغي عمله ؟! يا إلهي.. ما هذا البلاء الذي لَطَمنا على الوجه ؟!
الأقارب والجيران.. كلٌّ يقدّم تفسيراً للواقعة: بعضهم يرى أنّ البنت مصابة بالعَين، وغيرهم يقول إنّها قد تَلَبّس بها الجِنّ. ولم يكن للأسرة من ملجأ غير التوسّل إلى الله، والدعاء الباكي بدموعٍ تنضح من القلب.
كانت نظرات رقيّة نظراتٍ جنونيّة مُعتِمة. تُحَملِق هنا وهناك، وتُحدِّق تحديقاً مخيفاً! كلّما أرادت أن تنام كأنّما كان يتحدّث معها، قبلَ نومها، أشخاص يسكنون في عالَم الخَفاء، فيَضجّ رأسُها بكلامٍ مختلطٍ غريب! في كلّ لحظة يتجسّد أمام عينَيها شكلٌ ما أو شخص تعرفه هي! وفي الواقع كانت رقية أعجزَ من تحمّل هذ العبء المخيف. يستبدّ بها الغضب والعجز وتتكسّر الكلمات في حنجرتها وتتحوّل إلى رغوة تطفح من فمها. تَتَقبّض أطرافها، وتصاب بالارتعاش، ثمّ تقع مُغمىً عليها. تنقلب رقيّة من صَبيّة لطيفة مَرِحة إلى بنتٍ مُبتَئسة صفراء الوجه قد صَرَعها الجنون. ولا شكّ أنْ يَرِقّ لها مَن يعرفها ويُشفِق عليها، ويَعجَب لهذا الانقلاب المباغت الذي نزل بها، فيلجأ إلى الهمس بالاستغفار: اللهمّ.. آعْفُ عنّا!
يمرّ شهر المحرّم بالدموع وبمراسيم عزاء الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السّلام.. وبهموم رقيّةَ أيضاً. كان أبَواها يبكيان على « رُقيّةَ » بنت الإمام الحسين عليه السّلام، وعلى سَمِيَّتِها رقيّةَ ابنتهما. شاركا في المأتم يَلدِمان الصدر. وفي ليالي المحرّم تَضَرّعا إلى الله لشفائها متوسّلَين بحرمة دم الحسين عليه السّلام. وفي يوم أربعين إمامهما الشهيد.. رَفَعا أكُفَّهما أيضاً، بمنتهى الفقر والمَسكنة، طلباً لعافية ابنتهما المريضة.
وجاءت أواخر أيّام شهر صَفَر.. حيث ذكرى رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله. كانت مواكب العزاء تمضي من تَبريز تِلقاءَ مشهد الرضا عليه السّلام للمشاركة في مراسيم هذه الفاجعة الكبيرة. وكانت أسرة رقيّة ـ ومعها رقيّة ـ في ضمن الموكب الذي قصد مشهد الإمام الرضا عليه السّلام.
كان الزائرون والمجاورون في داخل الحرم.. في الصحون والأروقة، وفي داخل الروضة أيضاً. إنه يومُ مناسبة رحيل النبيّ صلّى الله عليه وآله واستشهادِ سِبطه الإمام الحسن عليه السّلام.
المواكب المتعاقبة تقيم هنا في الصحن مراسيم العزاء. مواكبُ لطم الصدور، ومواكب السلاسل الصغيرة تُضرَب على الظَّهر.. في إيقاعٍ جليل مُفعَم بالأسى والحزن. والشِّعرُ الذي يُنشده الراثون يتألّق في الجوّ حزناً روحانيّاً شفيفاً. الموكب الذي رافَقَته الأسرة من تَبريز يواصل مراسيم الفاجعة في ضرب السَّلاسِل بحرارةٍ وأسىً عميق يتغلغل إيقاعُه إلى كلّ خليّةٍ في الجسم ويغور في أقاصي الروح. كان الحاضرون قد تَجَمهروا حول الموكب وهم مأخوذون بهذا الإخلاص والوجد والحزن المتجلّي في الأجواء.
كانت رقيّةُ ومعها النساء الأُخرَيات يَشهَدْنَ هذا المشهَد المليء بالجلال الآسِر. رقيّةُ تتطلّع إلى ما يجري. يشتدّ بها الوجد، وتحملها أحزانُ أهل البيت إلى عالَم في العَلاء. رقيّةُ تحسّ أنّ قَدَمَيها لاتَحملانِها. تتهاوى.. في إغماء. تهتاج النِّسوة اللائي أحَطْنَ بها. تحملها النسوة، مُغَطّاة بعباءتها، ويَضَعنَها في وسط موكب ضرب السلاسل.
تَنَبّه رجال الموكب التَّبريزيّ إلى حالة رقيّة.. المريضةِ الممدّدة في بۆسٍ وسطَ المكان. ازدادت حماسة الرجال وهم يضربون على الظهور. اشتدّ إيقاع الطبل، وتَعالى صوت الصَّنّاجة من عمق قلوبهم المحترقة. كان الرجال يضربون. السلاسلُ الصغيرة تتصاعد في أيدي الرجال إلى الأعلى.. ثمّ تَهوي في إيقاعٍ واحد، كأنّها حمائمُ تعلو وتهبط. تتعالى مع هبوطها أصوات الرجال:
ـ يا حسين!
تَضرُّعاً لشفاء رقيّة إنّهم حَزانى قادمون من مسافات بعيدة.. يريدون ليُعبِّروا عن أساهم لرحيل النبيّ صلّى الله عليه وآله. أوَ لم يكن النبيُّ طبيبَ الأمم الدَّوّارَ بطِبِّه.. والذي يَقطُر من أصابع كفّه الطاهرة الهدى والشفاء لكلّ العالَمين ؟! أيمكن لهم أن يعودوا من عَتبة ابن النبيِّ ـ هذه القُدسيّةِ المباركةِ ـ خائبين ؟! إنّ صيحات « يا محمّد.. يا حسن.. يا حسين » بَلسَمٌ لضنى القلوب المَكْلُومة، وعافية لكلّ الجروح والأسقام.
رجال الموكب لا يَفتأون يَذكرون بنبرةٍ مُنتظَمة مُجَلجِلة ذِكرَ « يا حسين »، وهم يَدورون حول رقيّةَ المطروحة وسط موكبهم على الأرض: « يا حسين.. يا حسين ». أمّا رقيّةُ فكانت في عالَمها كوليدٍ يُولَد في هذه اللحظة. انسَرَبت على مهلٍ من عالم الغَشية إلى الإلهام. إنّها الآنَ على مَشارفِ الغيب الذي يَقطُر عذوبةً وصفاء. إنّها الآنَ أمام رَجُلٍ فارع الطول، يَعتمِر عمامةً خضراءَ بِلَونِ الحُبّ. ومُحَيّاهُ الوضيء.. كأنّه شمسٌ رائقة متألّقة بالنور والبهاء. أحسّت أنّ الرجل البهيّ سلطانٌ من الغيب قادر في غاية القدرة، رۆوف في غاية الرأفة. دنا منها رجل الغيب الإلهيّ. وضع يده على رأسها. خاطبها بحنانٍ غامر:
ـ قومي يا ابنتي.
فقامت رقيّة. رقيّةُ واقفةٌ الآنَ على قدمَيها بمَرأىً من الذين يَدورون من حولها! غَرِقَت مَآقيهم بالدموع. اشتدّوا في ضَرْبِ السلاسل وقَرْع الصَّنّاجات والطبول، وتصاعدت هُتافاتُهم برفيع الأصوات:
ـ يا حسين.. يا حسين..
ورقيّةُ كالمذهولة تبكي.. وتبكي. لقد فازت في لحظةٍ بأعزِّ ما كانت تَحلُم به وتتمنّاه، وقد امتلأت كينونتُها بُهتافٍ سماويّ كأنّه قادم من أغوار الأبديّة:
ـ يا حسين.. يا حسين!
حكايةٌ.. يَرويها نَهْرُ دِجْلَةَ