إرحل.. الوضع المنکود والعقل المفقود
لم يکن أحد يتصور يوم نجاح مرسي في إنتخابات الإعادة للرئاسة، والاحتفالات التي سبقت أو صاحبت دخوله قصر الرئاسة- وخصوصاً الاحتفال بميدان التحرير حيث فتح صدره دون صديري واقي لثقته في حب الشعب له وفي إحتفال جامعة القاهرة، قبل أداء اليمين أمام المحکمة الدستورية- أقول- لم يکن أحد يتصور إلا من قد يعمل في الظلام، أن سيأتي اليوم الذي يقول فيه بعض المصريين لمرسي وبهذه السرعة: إرحل.
قبل ستة أشهر من حکم مرسي طالبه أبناء الشعب بالرحيل، بعد أن صبروا على من کانوا قبله حتى يموت مثل عبدالناصر، أو يقتل مثل السادات أو يسجن بعد 30 سنة في الحکم الفاسد الظالم مثل مبارک. فلماذا لم يصبر أولئک المعارضون ضد مرسي مثل ذلک الوقت؟.
کان من الواجب أن تقوم مۆسسة الرئاسة وحزب الحرية والعدالة والأحزاب الإسلامية الأخرى بما فيهم السلفية ومرجعياتهم، بدراسة الوضع القائم في مصر، دون الشعور بالقوة أو الاستعلاء أو روح الانتقام من أي طرف، أو النظرة القاصرة المستهزئة بمن يقفون في المعارضة التي وصفها الإخوان والاسلاميون بالفلول هکذا جميعاً، ومنهم ثوريون کثر لا ينکرهم إلا جاهل أو جاحد، ومن ثم فقد هتف المتظاهرون يوم الثلاثاء الماضي الحزين، وهم في طريقهم إلى قصر الإتحادية: إهتف قول إحنا مش فلول.
ومن أخطاء الرئاسة والاسلاميين، التي أدت إلى هذا الوضع المعقد الذي وضع- کما يقول المصريون: العقدة في المنشار، تلک النظرة الاستعلائية بالقوة وبمۆسسات الدولة وروح الانتقام عند بعضهم وإن کانوا قلة، ومن الأخطاء التي ينبغي الاعتذار عنها لا البناء عليها، ضعف تنفيذ الوعود والعهود التي قطعها مرسي على نفسه قبل الانتخابات أو بعد مجيئه إلى کرسي الرئاسة. ذاکرة الشعب- وخصوصاً بعد الثورة- لا تنسى تلک الوعود الوردية الانتخابية، سواء وعود المائة يوم، لحل المشکلات الخمس المعقدة بما فيها، المرور والقمامة والأمن والطاقة والعيش أو غيرها أين ما يحدث في الواقع بالمقارنة مع التربية الجميلة والسلوک الأجمل الذي عشناه مع الرعيل الأول للدعوة؟.
وبعد المائة يوم الأولى کان التفسير والتبرير غير المعقول في خطبة 6 أکتوبر، حيث جاءت نسب التنفيذ التي ذکرها مرسي في خطبته أمام أهله وعشيرته في الاستاد عالية جداً، يکذبها الواقع ولا أساس لها يمکن أن يقبله الشعب الذي لم يعد يصبر على الأخطاء.
ثم کان الصدام مع المحکمة الدستورية في وقت مبکر، بشأن إبطال القرارات الخاصة بإبطال مجلس الشعب والعودة عنها، ثم إبطال قرارات التأسيسية الأولى والإصرار على نفس التشکيل مرة اخرى. ثم جاء الصدام مع النائب العام في المرة الأولى، والتراجع عنه وبرزت الضبابية في التصريحات وليست الشفافية، ثم النکوص عن التوافقية في التأسيسية الثانية. وکانت الطامة الکبرى في الاعلان الدستوري إعلان نوفمبر 2012، الذي أعطى بموجب مادته الثانية سلطات مطلقة للرئيس، بحجة التحصين لمجلس الشورى والتأسيسية، ولا يحصنها ويحصن غيرها إلا رضاء الشعب في ضوء الاقناع.
أراد مبارک بتعديل الدستور-في أواخر عهده البئيس- أن يمهد الطريق للتوريث، فأغضب حتى الجيش رغم مظاريف الموالاة التي کانت تعطى لأهم القيادات العسکرية، فوقف الجيش بقيادة المجلس العسکري مع الثوار، مما کان له الأثر الطيب في نجاح الثورة، والتخلص من التوريث الذي کان يۆذي قيادات الجيش والمخابرات والشعب في آن واحد. لم تقتنع مۆسسة الرئاسة والمرجعيات التي ترجع إليها بعد، بقوة الشعب على الثورة من جديد. وخاصة أن مرسي فتح لهم هذا الباب عندما کان في أسيوط منذ شهر ونصف تقريباً، وأعلن في خطبته أنه لن يتردد في القيام بثورة جديدة.
کان هذا بمثابة إعلان عن موت الثورة الأولى، ومادام هناک متسع للثورة الجديدة، فلا يستطيع کائن من کان في مصر أن يمنع الشعب من المشارکة في ثورة جديدة حتى لا تکون ملونة بلون واحد. وجاء أيضاً مشروع الدستور-المنتج النهائي- به أخطاء فادحة کان يمکن استخدام صوت العقل بتعديلها، ولکن الاصرار على طرح مشروع الدستور للاستفتاء في مدة 15 يوماً من تسليمه لرئاسة الجمهورية يوم 30/11/2012، دون تعديل أو تصويت، جاء بمثابة صدمة جديدة، لم تتحملها القوى السياسية المعارضة، ولا من يلوذون بهم أو من يکرهون الإخوان أو طبعاً الفلول التي وجدوها فرصة مناسبة للتسرب إلى التحرير والانضمام للمعارضة ومنهم حملة الشهيد عمر سليمان قبل طردها من الميدان. وقد ساعد هذا بعض المتعصبين الذين ينظرون إلى الأوضاع بعين واحدة أن يصفوا المعارضة السياسية والمتظاهرين کلهم بالفلول.
من الأمور العجيبة في حکم الاسلاميين-في تلک الفترة القصيرة- محاصرة المحکمة الدستورية، وترديد شعارات ترهب القضاة والعاملين بالمحکمة ومنها: 'يا مرسي إدينا إشارة واحنا نجيبهم لک في شيکارة'. هل هذا هو الهدف من الثورة أو من مجئ الاسلاميين إلى الحکم؟. هل هذه هى الدعوة الإخوانية أو السلفية التي يجب أن تۆمن وخصوصاً في مرحلة الدعوة بما دعا إليه القرآن الکريم'إدع إلى سبيل ربک بالحکمة والموعظة الحسنة' أو'ولوکنت فظاً غليظ القلب لإنفضوا من حولک فاستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوکل على الله'. لست أدري من يفکر للإخوان أوالقوي السياسية الإسلامية، ولا أدري ما هى الثوابت والمعايير التي ينطلقون منها اليوم وهم في الحکم؟.
وعلى الجانب الآخر نرى المعارضة أو القوى السياسية التي تسمى بالمدنية والديموقراطية والثورية، کأن القوى الاسلامية ليست کذلک، وکأن هذه الأوصاف يجب أن تظل حکراً عليهم فقط، نرى هذه المعارضة قد إجتمعت لمعارضة بعض نتاج النظام القائم ممثلاً في الإعلان الدستوري ومشروع الدستور، وهذا حقهم دون أدنى منازعة طالما کان ذلک سلماً، ولکن أين هذا المشروع الإنقاذي الذي يحملونه جميعاً لمصر ولمستقبل مصر؟ وأين معالمه التي تقنع الشعب؟.
وعلى القوى الاسلامية أن تدرک أن شرح الدستور للشعب يحتاج إلى وقت أطول، وأن يطبقوا ما کانوا ينادون به أيام المخلوع ومن کان قبله، من قبيل: المشارکة لا المغالبة، وأن يدرکوا أن الدستور يعالج أمراض الأمة بنصوص قوية واضحة غير فضفاضة ولا غامضة، لا تحتمل أکــــثر من معنى ولا تکون مطاطة.
يستطيع هۆلاء-على عکس توقعات الإسلاميين- إسقاط الحکم واثارة الشعب بما فيه المسلمين من غير الاسلاميين وهم الغالبية، ولکنهم لن يقنعوا الشعب بما لديهم للبناء والتنمية وخصوصاً دعوة العسکر للتدخل مرة أخرة أو المجتمع الدولي أو معارضة بعضهم لتطبيق الشريعة. يمکنهم معارضة فهم بعض الإسلاميين للشريعة مثل الفهم الطالباني أو القاندهاري أو البدوي وکل ما هو غير وسطي، ولکن عليهم أن يقتنعوا بأن الشريعة عدل کلها، ورحمة کلها، وعليهم أنفسهم أن يسهموا في إبراز هذه الرحمة وهذا العدل، حتى لا يظهروا في الجانب المعارض للشريعة، علماً بأن معارضة الفهم السئ للشريعة أو المتشدد مقبول، غير الاعتراض على الشريعة نفسها.
لم يکن يتصور أحد في مصر على الأقل، ولا في دوائر المصريين في الخارج، أن يخرج بعضهم للمطالبة برحيل مرسي مبکراً قبل ستة أشهر من الحکم، ولکن الاسلاميين أعطوهم بعض مبررات ذلک. الصدام قادم لا محالة وخصوصاً أن مصر مليئة بالأسلحة المستوردة والمصنوعة محلياً، المرخص بها وغير المرخص بها. کل هذا يمکن أن يحدث مالم يتدارک المسۆولون أولاً هذا الأمر الخطير ، وأن يستجيب المعارضون ثانياً للمبادرات التي تدعو إلى الحکمة، واستخدام العقل ونزع الفتيل واللجوء إلى الحوار دون شروط مسبقة تعسفية. لا أدري عند نشر هذا المقال، کيف سيکون الوضع ولا المآل الذي يجب أن ننظر إليه، فالأمور بمآلاتها.
أقترح کما اقترح آخرون، إنشاء منتدى للحوار الوطني، يظل مستمراً لعلاج أي أزمة تطرأ على الساحة. أما علاج هذه الأزمة القائمة فيجب أن يکون من خلال حوار وطني- ليس مع الدکتور مرسي لمدة ساعة أو ساعات مع بعضهم- ولکن المطلوب حوار جاد وطني شامل بين الأطراف جميعاً وفق أجندة محددة، ومواقيت محددة، ومکان مناسب مثل مکان التأسيسية أو قاعة إجتماعات في إحدى الجامعات أو البرلمان، أو الشورى، يستمر أسبوعاً على الأقل دون شروط مسبقة إلا تعليق وتأجيل الاستفتاء على مشروع الدستور، حتى يتم مناقشته مناقشة جادة وتعديله أو تصويبه أو تحسينه، وحتى لا يشعر المتحاورون بسيف الانتخابات على رقابهم، وقبل هذا کله ينبغي سحب جميع الشباب من الشوارع والميادين وکفى إصابات وشهداء.
وعلى القوى الاسلامية أن تدرک أن شرح الدستور للشعب يحتاج إلى وقت أطول، وأن يطبقوا ما کانوا ينادون به أيام المخلوع ومن کان قبله، من قبيل: المشارکة لا المغالبة، وأن يدرکوا أن الدستور يعالج أمراض الأمة بنصوص قوية واضحة غير فضفاضة ولا غامضة، لا تحتمل أکــــثر من معنى ولا تکون مطاطة.
وختاماً لهذا المقال، وتأکيداً لما أقول عن مشروع الدستور الذي يحتاج إلى تعديل، فقد تعجبت من السطر الأول من ديباجة المشروع حيث جاء به أن هذا المشروع هو وثيقة الثورة.تعجبت وسألت نفسي هل قامت التأسيسية من أجل توثيق للثورة؟ وهل هذه هى طريقة التوثيق؟ وهل هم أهل لهذه المهمة؟ وهل المدة کافية لاخراج وثيقة الثورة. هذه إضافة غير صحيحة ولا معنى لها.
د. کمال الهلباوي