اُقصوصة أبي لهب و إمرأته
هذه الاُقصوصة أو الحكاية تتماثل مع حكاية أصحاب الفيل من حيث انحراف بطلها و قصرها و من حيث لغتها السردية و عدم اعتمادها عنصر المحاورة ، و لكنها تتميّز عنها بطبيعة شخوصها فبينما كانت اُقصوصة الفيل تعتمد بطلا جماعياً هم أصحاب الفيل ، نجد أنّ اُقصوصة أبي لهب و امرأته تعتمد بطلين فرديين سلبيين هما: أبولهب و امرأته .
و يلاحظ أنّ كلاّ من العناصر المرتبطة بالشخصية ، و بالموقف ، و بالحدث ، و بالبيئة نجده متوفّراً في الحكاية التي نتحدّث عنها .
فالشخصية هما: الزوجان المنحرفان .
و الموقف هو: موقفهما العدائي من النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
و الحدث هو: حمل الحطب و سواه ممّا استخدم لتجسيد الموقف العدواني .
و البيئة هي: الآخرة من حيث المصير الذي يغلّف تينك الشخصيتين ، حيث الخسران ، و حيث النار ، و حيث الحبل من المسد . . . إلى آخره .
و أمّا الأفكار المطروحة فيها فتمثّل في أنّ العقاب الالهي يطال المنحرفين دنيوياً و اُخروياً ، حيث خسر أبولهب و امرأته المعركه فيما انتهت بانتصار النبيّ (صلى الله عليه وآله)و تدمير عدوّه دنيوياً ، كما يطال العقاب مصيرهما الاُخروي المتمثّل في:
(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَب)
و (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَد)
و الآن إلى الصياغة الجمالية للاُقصوصة .
عنصر السخرية
لعلّ أبرز العناصر القصصية إثارة في الاُقصوصة التي نتحدّث عنها هو عنصر السخرية ، و السخرية كما نعرف ذلك جميعاً في ميدان الخطاب الأدبي في السرديات و سواها يظلّ من أهم المنبّهات أو المحرّكات التي يستجيب لها المتلقّي بما هو ممتع و طريف و مثير بخاصة إذا كان العنصر المذكور يتناول شخصيات معروفة في انحرافاتها ، و في نمط تعاملها مع الأطراف الإيجابية ، كرسالة الإسلام أو شخصية المرسل (صلى الله عليه وآله) ، حيث أنّ صغر و تفاهة الشخصية المنحرفة قبالة ضخامة و عظمة الشخصية النبويّة ، يجعل لعنصر السخرية أهميتها الكبيرة بحيث تتناسب و خطورة الموقف .
و تتمثل السخرية جمالياً و دلالياً في جملة مواقع من الاُقصوصة ، منها: ما يرتبط بالعنصر الإيقاعي الذي يشكّل بدوره واحداً من عناصر السرد الذي اعتمدته الاُقصوصة ، فيما سنتحدّث عنه بعد قليل ، لكننا هنا لا مناص من الإشارة إلى هذا العنصر من حيث صِلته بالسخرية التي استثمرت الجانب الإيقاعي للكلمة المسردة ، متمثّلة في عبارتي:
(أَبِي لَهَب)
و (ناراً ذاتَ لَهَب)
حيث أنّ اللهب و هو العبارة المشتركة بين كنية بطل الحكاية و بين الجزاء الاُخروي الذي ينتظره و هو نار جهنّم ، حيث استخدمت الاُقصوصة عبارة لهبدون سواها لتتجانس مع كنية الشخصية المنحرفة .
إنّ العبارة الجزائية (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَب) تجسّد و لا شك قمّة الإثارة و الدهشة و الطرافة الفنّية من حيث مجانستها ـ كما قلنا ـ مع كنية الشخصية المنحرفة أبي لهب . و التجانس المذكور لا ينحصر مع عبارة لهب فحسب ، بل إنّ أبي و هو كنية الشخصية في أحد شطريها تتجانس مع لهب جهنّم التي يصلاها ، بصفة أنّ الأب هو أكثر لصوقاً بالشيء ، فالجريمة مثلا هي ظاهرة انحرافية ، و أمّا إذا اُطلق على صاحبها مصطلح أب الجريمة فهذا يعني أ نّه أكثر جريمة من سواها ، بل أي هو صاحب سلسلة كبيرة من الانحرافات ، بحيث يصبح أباً لها .
إذن ، كم هو طريف و ممتع و مدهش حينما نلاحظ هذا التجانس الملفت للنظر بين الكنية و بين نار جهنّم ، مع ملاحظة أنّ النص القرآني الكريم يجانس دواماً بين مصطلح الجزاء السلبي ، أي: جهنّم أو النار و ما يواكبها من المصطلحات المعبّرة عنها مثل سقر ، لظى . . . إلى آخره .
حيث لاحظنا مثلا ، كيف جانس النص القرآني الكريم بين المحور الفكري الذي رسمته سورة «القمر» ، و هو: قيام الساعة و تضمّنها أي الساعة لحرف السين مثلا و إفصاح حرف السين عن كونه أداة لغوية تستخدم للمستقبل ، كما هو طابع عبارة سوف فيما تحدّثت القصة عن بيئة الحياة الاُخرى بالنسبة إلى الجزاء السلبي الذي ينتظر المجرمين ، فانتخبت عبارة سقر لتجانس مع حرف السين المشار إليه .
المهم أنّ مجانسة كنية أبي لهب مع ناراً ذات لهب تظلّ من السخرية الممتعة بالنسبة إلى الشخصية المذكورة .
و هذا فيما يتصل بالسخرية من أبي لهب .
و لكن ماذا بالنسبة إلى امرأته ؟
بالنسبة إلى امرأة أبي لهب و هي الشخصية الثانوية في القصة ، كما يمكننا أن نعتبرها شخصية رئيسة أيضاً بصفتها زوجة مشاركة في الجريمة ، هذه الشخصية رسمتها الاُقصوصة قمـّة في السخرية . لقد جانست الحكاية أيضاً بين سلوكها الخاص و بين نمط الجزاء المترتّب على ذلك ، كما جانست من جهة اُخرى بين طبيعة اهتمامات المرأة و هي الزينة و أحد تجسيداتها و هي القلادة و بين الجزاء المترتّب على سلوكها .
كيف ذلك ؟
لقد رسمها النص القصصي:
(حَمّالَةَ الْحَطَبِ)
كما رسمها من جانب:
(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَد)
ترى ما هي الأسرار الجمالية و الدلالية الكامنة وراء الرسم المذكور ؟ من البيّن أنّ الجيد هو العضو المناسب لمكان القلاّدة .
و الاُقصوصة قد استخدمت عنصر السخرية إلى أبعد مداه حينما استبدلت القلادة و هي عادة من الذهب و نحوه بـ حبل من الليف و هو أرخص الأشياء و أتفهها من حيث ابتذاله ، و جعله من ثمّ ، أي الحبل من الليف قلادة في جيد امرأة أبي لهب ، و هو أمرٌ يتجانس تماماً مع طبيعة اهتمام المرأة بالزينة حيث انتخب لها ما يضاد الزينة تماماً و هو: العذاب الشديد .
هذا بالإضافة إلى أنّ الحبل يتميّز بكونه ـ فضلا عن أ نّه رمز قلادتها ـ أداة أو رمزاً لسحبها من عنقها و إلقائها في نار جهنّم ، فيكون بمثابة الأغلال في أعناق المنحرفين ، حيث ورد هذا الوصف في بعض مواقع النص القرآني الكريم عبر حديثه عن المجرمين و سوقهم إلى جهنّم من العنق .
هذا و ينبغي ألاّ نغفل عن الرسم الآخر المتمثّل في صورة حمـّالة الحطب حيث أنّ هذا الحدث له صلته بسلوكها العدواني . تقول النصوص المفسّرة بأ نّها كانت تضع الشوك و نحوه في طريق النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، و حينئذ يجيء المرأى و هو: حمّـالةالحطب تعبيراً عن واقعية سلوكها من جانب ، و تعبيراً رمزياً من حيث التجانس بين حمل الشوك و حمل الحطب في جهنّم ، حيث أنّ جهنّم تظلّ حطباً ـ وقوداً ـ لها .
هذا إلى أنّ نصوصاً تفسيرية تذهب إلى أنّ الحطب هو رمز لـ النميمة من حيث الدلالة اللغوية ، حيث كانت امرأة أبي لهب تمشي بالنميمة بين الناس .
و المهم أنّ هذه العبارة المتمثلة في الحطب الواقعي ، و حطب جهنّم ، و الحطب اللفظي ، تظلّ من أهم الخطوط الجمالية الممتعة التي تطبع الاُقصوصة .
عنصر الصورة
و إذا تركنا السخرية بصفتها عنصراً استخدمته الاُقصوصة و اتجهنا إلى الخصائص المتميّزة الاُخرى ، نجد أنّ الصورة بمعناها الفنّي الذي يعني التركيب من ظاهرتين تنتهي عنهما ظاهرة ثالثة ، كالتشبيه و الاستعارة و الرمز و التمثيل . . .
إلى آخره ، تظلّ من خصائص القصيدة أو الخاطرة الفنّية ، إلاّ أنّ الملاحظ أنّ القصة القصيرة في تجاربها البشرية تظلّ في كثير من نماذجها مماثلة للقصيدة أو الخاطرة من حيث اعتمادها الصورة . فقد لاحظنا مثلا أنّ الحبل من المسد في الجيد يجسّد صورة رمزية في أحد تفسيرات النص ، كما أنّ عبارة حمّالة الحطب في أحد تفسيرات النص تعني رمزاً للنميمة ، أو صورة رمزية تنسب إلى ما يسمّى بــ : التورية ، هذا فضلا عن أنّ المجانسة بين أبي لهب و لهب جهنّم يمثّل نمطاً آخر من المجانسة .
و حتّى استهلال الاُقصوصة بعبارة (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَب وَ تَبَّ) يمكننا في أحد تفسيرات النص أنّ نعدّه عنصراً صورياً ، بصفة أنّ اليدين: يدا أبي لهب رمزٌ لتملّك الشيء أو رمزٌ لأيّة ممارسة تعبّر عن الحركة أو العمل أو أيّة ممارسة تعبّر عن مطلق السلوك مادّياً كان أو لفظياً أو معنوياً . . . إلى آخره .
العنصر الصوتي
مع أنّ العنصر الصوتي يظلّ سمة القصيدة و نحوها ، إلاّ أنّه كما لحظنا انسراب الصورة إلى القصة ، كذلك نجد انسراب الصوت إليها . فقد تمّت الإشارة إلى التجانس الصوتي بين كنية أبي لهب و بين النار ذات اللهب التي يصلاها ، كما يمكننا ملاحظة التجانس بين عبارة الاستهلال تبّت و بين نهايتها و تبّ ، مضافاً إلى ملاحظة التجانس بين أربعة أصوات الباء المتمثّلة في تبّت ، أبي ، لهب ، تبّ . اُولئك جميعاً تشكّل عنصراً صوتياً له جمالية في العنصر القصصي كما هو واضح .
البناء القصصي
أخيراً فيما يتصل بخصائص العرض القصصي نجد أنّ الاُقصوصة قد استهلّت بالتعليق القصصي:
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَب وَ تَبَّ ، ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ)
و نتساءل ماذا استهدف التعليق أو التدخّل أو الحكم القصصي من ذلك ؟
إنّ القصة تقول: خسرت يدا أبي لهب ، و هو رمز لما مارسته الشخصية المذكورة من السلوك السلبي: لفظيّاً و حركيّاً و مادّياً (اقتصادياً) و سلالياً ، و هذا في حالة ما إذا انسقنا مع التفسير الذاهب إلى أنّ عبارة (وَ ما كَسَبَ) تخصّ المباهاة بالأولاد .
و المطلوب الآن جمالياً هو أن نقول: إنّنا نعتزم أوّلا أن نمارس عملية تذوّق جمالي للاُقصوصة بغضّ النظر عن النصّ التفسيري مع ضرورته بطبيعة الحال ، و لكن ـ كما كرّرنا ـ أنّ إعجاز النص القرآني يتمثّل في التوفيق بين التذوّق الفنّي و التذوّق التفسيري .
المهم ، ماذا يمكننا أن نستخلص من الاستهلال القصصي المذكور ؟
إنّنا نستخلص بأنّ أبالهب مارس سلوكاً متعدّد الجوانب مادّياً و معنوياً بحيث ترتّب عليه خسار ، إلاّ أنّ الخسار بدوره يظلّ مجملا و ذلك لسببين ، أولهما: أنّ الاُقصوصة كرّرت الخسارة بالنسبة إلى يدي أبي لهب ، و الاُخرى بالنسبة إلى شخصيته بنحو عام و هذا ما يتمثّل في عبارتي : تبّت و تبّ .
ترى ماذا نستخلص من تينك الخسارتين ؟
قبل الرجوع إلى المأثورات المفسّرة يمكننا بأن نستخلص بأنّه مارس عملا مادّياً كالضرب مثلا ، أو عملا اقتصادياً كصرف الأموال أو مطلق ما يمكن بأن ينسب رمزياً إلى اليد ، كالإشارة القرآنية مثلاً إلى ما اكتسبت اليدان ، حيث ترمز بذلك إلى مطلق السلوك الصادر عن الإنسان أيّاً كان نمطه . . . و حينئذ فإنّ يديه الممارستين ـ أي يدي أبي لهب ـ للسلوك المضاد لرسالة الإسلام أو للنبيّ (صلى الله عليه وآله) قد خسرتا الموقف ، بصفة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد انتصر و تمّ له الفتح ، و دخل الناس في دين اللّه تعالى أفواجاً ، و أمّا أبولهب فقد خسر و باء بالفشل في محاولاته . . .
إذن ثمة خسارة دنيوية لمسها أبولهب و هو فشله مقابل نجاح محمّد (صلى الله عليه وآله) .
و هنا تكمن الطرافة القصصية المتمثّلة في اُسلوب التكرار الذي طبع الاُقصوصة من خلال عبارتي تبّت المشيرة إلى الخسار الدنيوي ، مقابل تبّ المشير إلى الخسار الاُخروي .
كيف ذلك ؟
إنّ عبارة تبّ تعني خسر . . . وذلك إذا عرفنا أنّ ما كسبت يداه قد طبعها الخسران الدنيوي ، حينئذ فإنّ خسار النفس لابدّ و أن يصبح اُخروياً .
أي أنّ تبّ لابد و أن تعني خسارة اُخروياً .
و تبّت تعني خسارةً دنيوياً ، لأنّ الخسارة الدنيوية أو الاُخروية وحدها ، لا تتوافق مع المفردة تبّ أو تبّت ، كما أ نّه لا معنى لأحد الخسارين: الدنيا أو الآخرة ، بصفة أ نّه خسر كليهما . أمّا الاُخرى فمن الوضوح بمكان .
و عبارة(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَب) تعني اُخروية الخسار . . .
و أمّا دنيويته فتنحصر حينئذ في عبارة تبّت مادام الأمر يتّصل بمحاولاته المتنوّعة حيال الرسالة الإسلامية .
إذن لو اقتصرنا على تذوّقنا الفنّي الخالص ، لأمكننا أن نستخلص ما عرضناه الآن . . . و هو ـ لحسن الحظّ ـ يتجانس مع النصوص التفسيرية في بعض نماذجها بطبيعة الحال .
و الأمر نفسه بالنسبة إلى الشريحة الثانية من الاُقصوصة :
(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ)
فالقارئ بمقدوره أن يستخلص بأنّ أبالهب إمّا أن يكون قد صرف مالا لمحاربة النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو خُيّل إليه بأنّ ما يمتلكه من المال و الأولاد ينفعه في الموقف ، و هو ما يتساوق أيضاً مع النص المفسّر .
أخيراً أيضاً ، إذا تابعنا البناء القصصي للحكاية التي بدأت أوّلا بالإشارة إلى خسارة أبي لهب بنمطيها ، للاحظنا أنّ استهلال القصة بنتائجها ، و هي الخسار دنيوياً و اُخروياً قبل العرض لسلوكه و امرأته ، نجد أنّ هذا الاستباق الزمني ثمّ الاسترجاع له مسوّغاته المتمثّلة في فكرة الاُقصوصة الذاهبة إلى أنّ اللّه تعالى يستهدف الإشارة إلى خسارة من يحاول إطفاء النور ، و الوقوف بوجه الرسالة الإسلامية بالنحو الذي أوضحناه .
آية الأمانات
تفسيراية ( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا)
تفسير اية(تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)