منشأ الاعتقاد لدى الإنسان
تُبنى الاعتقادات على أساس التفكّر ودعوة المنطق كما تقدّم، وبذلك تكون اعتقادات سليمة ومقبولة، إلّا أنّ هذه الاعتقادات تحصل أحياناً من دون أن يكون للعقل والفكر أيّ دور في حصولها، ولذلك عدّة مناشئ:
فقد يعتقد الإنسان بأمر نتيجة التعلّق والميل القلبيّ أو لانجذاب مشاعره نحو أمر ما، كما أنّه قد يعتقد تقليداً للأبوين وتأثّراً بالمحيط، وقد تلعب الرغبات الخاصّة والمصالح الفرديّة دوراً في حصولها... وأكثر عقائد الناس قائمة على هذا الأساس.
وهنا يُطرح سۆال وهو أنّه: هل يجب أن يكون الإنسان في بناء عقائده متحرّراً من تعلّقاته القلبيّة؟
آثار التعلّقات القلبيّة
تحولُ التعلّقات القلبيّة دون النشاط الفكريّ وحريّة التفكير، وتۆدّي إلى التعصّب والجمود والسكون، وكمثال على ذلك عبادة الأوثان أو البقر أو أعضاء الجهاز التناسليّ، فإنّ هذه النماذج لا تنمّ عن اعتقاد ناجم عن فكر وعقل حر, إذ لا يمكن أن يحمل الإنسان فكرا حرا ثم يقدم على عبادة مثل هذه النماذج, فإن العقل والفكر البشري حتى في أدنى مستوياتهما لا يوصلان الإنسان إلى هذه الحالة, فلا شك أن العقيدة جذورا أخرى غير عقلية, كأن يكون أساسها بعض النفعيين بترويجهم عبادة ما, ثم يأتي أناس مغفلون فيتأثرون ثم يقلدهم أبناۆهم وهكذا.
احترام حريّة اعتقاد الإنسان
قد يُقال، وبناءً على قاعدة أنّ فكر الإنسان حرّ وعقله كذلك, أنّ عقيدته لا بدّ أن تكون حرّة، ولذا فالوثنيّ مثلاً حرّ في عقيدته. وهذه مغالطة موجودة في العالم حاليّاً، وهي بدعواها منح الحريّة للفكر فإنّها في الواقع تقيّد الفكر.
هناك مسلكان في ميزان احترام اعتقاد الإنسان
الأوّل: أن نعتبر الإنسان حرّاً ومختاراً، فنحترم كلّ ما يعتقد به ولو كنّا نرفض ما اختاره، أو كنّا نعلم بأنّه كَذِبٌ وخرافة، بل حتّى لو ترتّب عليه مستلزمات باطلة وفاسدة.
الثاني: أن يكون احترامنا له بتوجيهه نحو الرقيّ والتكامل والسعادة.
فأيّ السبيلين أجدر بأن يُسلك؟
في الواقع إنّ ترك الإنسان يختار العقائد الفاسدة، كأن يختار الوثنيّ عبادة الوثن، هو تقييد لفكر الناس، واحترام هذا القيد هو عدم احترام لقابليّته الإنسانيّة ولاعتباره الإنسانيّ في مجال التفكير، في المقابل فإنّ المسلك الثاني هو الّذي ينهض بالإنسان ويوصله إلى رقيّه المنشود.
والنتيجة أنّه لا بدّ من فكّ هذا القيد ليكون فكرُه حرّاً، وعليه فمن الخطأ على الصعيد الإنسانيّ احترام المرتكز العقائديّ لشعب يريد تقييد الإنسان.
شواهد من سيرة الأنبياء عليهم السلام
ممّا يشهد على ما ذكرنا ما نجده في سير الأنبياء عليهم السلام، فالنبيّ إبراهيم عليه السلا مثلاً قام بتحطيم أوثان قومه الّتي كانوا يعتقدون بها ويعبدونها وترك الوثن الكبير، فشكّل هذا الأمر صدمة لهم جعلتهم يرجعون إلى أنفسهم وفطرتهم ويتأمّلون في عقيدتهم، حيث إنّ هذه الأصنام غير قادرة على الدفاع عن أنفسها، وكبيرهم عاجز عن هذا التحطيم، (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)سورة الأنبياء، الآية: 64.
ولذا فإنّ ما مقام به إبراهيم عليه السلام هو عمل إنسانيّ لأنّه حرّر فكرهم من قيد العقيدة الفاسدة.
وكذا النبيّ موسى عليه السلام فقد كان عمله إنسانيّاً في حرقه لعجل السامريّ: (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)
وإذا انتقلنا إلى البعثة المباركة للنبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، فنجد أنّه قد قام بمحاربة العقيدة الوثنيّة سنين طويلة كي يحرّر فكرهم، وتقدّم بذلك بهم نحو الرقيّ والتكامل، وفكّ قيودهم العقائديّة ووضع (... عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم)سورة الأعراف، الآية: 157.
سبب ظهور حريّة العقيدة في أوروبا
إنّنا بقراءة تاريخ أوروبا في القرون الوسطى سيتّضح لنا بشاعة الجرائم الّتي كانت تُرتكب، والّتي لا تصل إليها جرائم بني أميّة والعبّاسيّين، الأمر الّذي أدّى إلى ظهور ردود فعل تدعو إلى حريّة الناس في العقيدة حتّى لو أرادوا عبادة البقر.
نعرض فيما يلي لأهمّ الأسباب الّتي أدّت إلى نشأة ظاهرة احترام حريّة الدِّين والعقيدة في أوروبا، وإن كان هذا الدِّين وهذه العقيدة فاسدة:
1- ردّة فعل لممارسات الكنيسة التعسفيّة في القرون الوسطى.
ونلخّص الممارسات بما يلي:
أ- مراقبة أفكار الناس للكشف عن عقائدهم المخالفة لفكرة الكنيسة، سواء في المجال العلميّ أو الفلسفيّ، واعتبار ذلك جرماً عظيماً، ثمّ القيام بمحاكمة من يطرحها ومعاقبته.
ب- إحراق مجموعة من النساء وهنّ على قيد الحياة لاتهامهنّ بجرم بسيط جدّاً.
ج- سلب العلماء الحقّ في إبداء وجهة نظرهم في مطلق المسائل، حتّى تلك الّتي لا تتّصل بأصول الدِّين إن كانت الكنيسة قد أبدت بشأنها وجهة نظر علميّة.
إنّنا بقراءة تاريخ أوروبا في القرون الوسطى سيتّضح لنا بشاعة الجرائم الّتي كانت تُرتكب، والّتي لا تصل إليها جرائم بني أميّة والعبّاسيّين، الأمر الّذي أدّى إلى ظهور ردود فعل تدعو إلى حريّة الناس في العقيدة حتّى لو أرادوا عبادة البقر.
2- نتيجة لبعض الآراء الفلسفيّة
يرى بعض الفلاسفة الأوروبيّين أنّ الدِّين مهما كان نوعه، وثنيّاً أو إلهيّاً، فهو يتعلّق بضمير كلّ شخص، فإنّ كلّ شخص بضميره ومكنوناته بحاجة إلى الاستئناس بالدِّين والتعزّي به، كما أنّ الإنسان بحاجة إلى الاستئناس بالفنّ والشِّعر، فإنّ هكذا قضايا ذات الصلة بالضمير الشخصيّ الفرديّ ليس فيها حُسْن وقُبح، ولا حقّ وباطل، ولا صدق وكذب، وإنّما ترتبط بحبّ الإنسان، فكلّ ما يحبّه الإنسان حسن.
وعلى سبيل المثال مسألة تفضيل الألوان فإنّ الأذواق فيه مختلفة، ولذا لا يمكن السۆال عن أفضل الألوان بنظر كافّة الناس، بل يسأل عن اللون الّذي يفضلّه كلّ فرد، وهكذا الحال بالنسبة للأطعمة وغيرها، وهذه تسمّى مسائل ذوقيّة ومسائل خاصّة، حُسنُها وقُبحها يرتبط برغبة الإنسان.
وعلى العموم فإنّهم يعتقدون بأنّ الدِّين لا حقيقة ولا أساس له، لكنّ الإنسان لا يقدر على العيش بدون دين يستأنس به، وعليه فمن حقّ كلّ شخص أن يختار الدِّين الّذي يهواه ويميل إليه.
الردّ على هذه النظرة الفلسفيّة
أوّلاً: إنّ أصحاب هذه النظريّة يعتبرون أن لا أساس ولا حقيقة للدِّين، وبالتالي سمحوا باختيار الدِّين حسب ميل كلّ شخص وهواه، والحال أنّ الله قد بعث أنبياء بيّنوا للناس طريقاً حقيقيّاً نيّراً تكمن فيه سعادة البشر.
ثانياً: إنّ هۆلاء الفلاسفة الّذين يتبنّون هذه النظريّة أنفسهم لا يلتزمون دائماً بهذه الحريّة.
ولتوضيح ذلك: نسأل ما رأيكم في حريّة الرأي ضمن قضيتي الصحّة والثقافة؟ هل يحقّ للناس اختيار الإصابة بالمرض؟! ولماذا تلزمون الناس بالتعلّم وتبنون المدارس للّذين لا يريدون العلم؟! ألا يعتبر ذلك سلباً لحقّ الحريّة الّذي تلتزمون به للإنسان؟!
إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد نصّ على إلزاميّة التعليم في المرحلة الابتدائيّة، وبناء المدارس ومعالجة المرضى يُعتبر عندهم خدمةً لهۆلاء الغافلين وطريقاً لسعادتهم، ويجب تقديم هذه الخدمات ولو بالقوّة.
ونحن من نفس الباب نعمِّم ونوسِّع ذلك للدِّين لكونه أمراً حقيقيّاً موجباً لسعادة البشر وباعثاً للعقل والفكر على التقدّم والنشاط.
الشهيد مرتضى مطهري
اعداد: سيد مرتضى محمدي
القسم العربي : تبيان
خطر التحريف في النصوص الدينية
النشأة الإنسانية في التصور الإسلامي
الصفات الفعلية – التَّكلُّم
إنكار الفطريات و الغرور بالعلم