حكايةٌ.. يَرويها نَهْرُ دِجْلَةَ
وأنا أسيرُ على نَهْرِ دِجْلةَ.. أتأمَّلُ جَريانَ مائِهِ وأُحَدِّقُ فِيهِ.. شَعَرْتُ كأنَّ النَهْرَ يَسْتَوْقِفُني عِنْدَ مَوْضِعٍ على شاطِئِهِ.. وراحَ يَحْكي لي حِكايةً سَبَقَ لهُ حِكايَتُها مِراراً على ضمائرِ الاََجْيالِ السالِفَةِ وقُلوبِها.. فَتَصَدَّعَ قَلْبِي.. وانْفَجَرَتِ الدُمُوعُ عَلى وَجْنَتَيَّ فَلَمْ أَستَطِعِ التَحَكُّمَ بِأَعصابِي.. وَجَدْتُ نَفْسِي أَصْرُخُ بِأَعلى صَوتِي : ـ مَنْ مِنْكُمْ لا يَعرفُ نَهْرَ دِجْلَةَ.. ؟
هذا النَهْرُ الّذِي يَشُقُّ بَغدادَ إلى نِصْفَينِ.. هَلْ وَقَفْتُمْ عَلى شاطِئِهِ.. وَتَأَمّلْتُمْ نَزِيفَ دُمُوعِهِ.. ؟ هَلْ اسْتَمَعْتُمْ إِلَيْهِ بِقُلُوبِكُمْ وَضَمائرِكُمْ..؟ إنَّهُ منْذُ سَنَةِ 183هـ وَهُوَ يَروِي لِلاََجْيالِ حِكايَةً مُفْجِعَةً.. لَمْ تَشْهَدْ بَغدادُ أَفْجَعَ مِنْها.. لِذلِكَ فَهُوَ يَروِيها وَكأَنَّها وَقَعَتْ بِالاََمْسِ القَرِيبِ فِي ذلِكَ اليومِ كَأَنَّ شَمسَ بَغدادَ انْفَجَرَتْ ، وَتَشَظَّتْ فِي قُلوبِ شِيعَةِ آلِ الرَسُولِ صلى الله عليه وآله وسلم ومُحِبِّيهِمْ.. فَبَكَتِ السماءُ دَماً.. وَصَرَخَتْ بَغْدادُ بِأَعْلى صَوتِها : ـ كَذِبْتُمْ وَاللهِ حِينَ سَمَّيتُمُونِي مَدِينَةَ السلامِ.. أَيُّ سلامٍ هذا.. وَأَنا أَشْهَدُ فِي كُلِّ يومٍ ظُلْمَ بَني العبّاسِ وَجَوْرَهُمْ.. وَوُلُوغَهُمْ فِي سَفْكِ الدِماءِ.. وإِغراقَهُمْ فِي الفَسادِ. ؟! حَتّى شَهِدْتُ هذه الجنازَةَ مِنْ آلِ الرَسولِ المَلْفُوفَةَ بالسوادِ على الجِسْرِ ويُنادى عَليها بِالاََقاوِيلِ والتُهَمِ الباطِلَةِ.. أيَّ جَهلٍ تَحمِلُونَ في رُۆُوسِكُمْ.. ؟ وأَيُّ حِقدٍ جَعَلَ مِنْ قُلوبِكُمْ صُخُوراً.. ؟ فَقَطَعْتُمْ الغُصْنَ المُفْعَمَ بالطِيبِ مِنْ شَجَرَةِ النُبُوَّةِ.. وطَرَحْتُمُوهُ عَلى الجِسْرِ بِبَغدادَ.. أَهكَذا تَفْعلُ النُفُوسُ الخَسِيسَةُ حِينَ يُسَيْطِرُ عَلَيْها اللُۆْمُ والَتمَلُّقُ والتَزَلُّفُ كَيْ تَتَقَرَّبَ بِذلِكَ إلى الحُكّامِ وَالجَلاّدِينَ بِاضْطِهادِ دُعاةِ الهُدى.. وَسَفْكِ دِمائِهِمْ.. هَلْ سَأَلَ هۆُلاءِ أَنْفُسَهُمْ عَمّا يَفْعَلُونَهُ مِنْ جَورٍ وَظُلْمٍ لِمَ يَفْعَلُونَ ذلِكَ.. ! أَمِنْ أَجْلِ جَاهٍ زائِفٍ.. أَوْ
مُتَعٍ فانِيَةٍ مُنْطَلِقَةٍ مِنْ ضِعَةٍ نَفْسِيَّةٍ وَإِحساسٍ بالنَقْصِ والحَقارَةِ.. وحاجةٍ إلى رِضى الآخَرِينَ وَقَبُولِهِمْ..
* * *
وأَنا أُجَفِّفُ دُمُوعِي.. نَظَرْتُ إلى وُجوهِ الناسِ مِنْ حَولِي.. فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُمْ قَدْ حَفَرَتْ أَخادِيدَ على وَجَناتِهِمْ..
وَتَصَدَّعَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَأَنَّهُمْ يُشاهِدُونَ مِنْ جَديدٍ أَحداثَ ذلِكَ الزَمَنِ أَمَامَهُمْ.. تَقَدَّمَ مِنْ بَيْنِهِمْ شَيْخٌ كَبيرٌ تَتَخَضَّبُ لِحْيَتُهُ البَيضاءُ بِدُموعِهِ لِذا فَهُوَ يُكَلِّمُنِي بِأَنْفاسٍ مُتَقَطِّعَةٍ : ـ يا بُنَيَّ !
لَقَدْ نَقَلَ لنا التأريخُ ظُلْمَ الحُكّامِ وَجَوْرَهُمْ لاَِلِ بَيْتِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَإنكارِ إمامَتِهِمْ وَخِلافَتِهِمْ.. والاِِمامُ مُوسى بنُ جَعفَرٍ الكاظمُ عليه السلام رَغْمَ أَنَّ حياتَهُ خَضَعَتْ إلى الرَقابَةِ الشَدِيدَةِ.. وَتَنَقَّلَ بَيْنَ السُجونِ والمُعتَقلاتِ إلاّ أَنَّهُ كانَ يُتابِعُ رِسالَةَ آبائِهِ فِي نَشْرِ العُلومِ والحَدِيثِ
والاََخْلاقَ.. وكانَ يُدافِعُ عَنْ الاِِسلام وَيَرْعَى المُسلِمِينَ.. وأَبْسَطُ ما رُوِيَ عَنْه أَنَّهُ إِذا أَعْطى إلى فَقِيرٍ صُرَّةً مِنَ المالِ.. جَعَلَتْهُ يَسْتَغْنِي بِها فَلَمْ يَعُدِ الفَقْرُ يَعْرِفُ طَرِيقاً إِليْهِ..
ـ يا شَيخي ! وَكَيْفَ لا يَكُونُ كَذلِكَ؟!أَلَمْ يَكُنْ إِماماً مَعْصُوماً مُفْتَرَضَ الطاعَةِ مِنْ آلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
وَهذا ما كانَ يُغِيضُ الحاكِمَ العَبّاسِيَّ هارونَ الرَشِيدَ.. وَيَجْعَلُهُ يُفَكِّرُ بِاغْتِيالِهِ والتَخَلُّصِ مِنْهُ كُلَّما سَمِعَ أَنَّ الناسَ مُلْتَفُّونَ حَولَهُ يَسْأَلُونَهُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ.. وَيَنْهَلُونَ مِنْ عِلْمِهِ.. وَيُسَلِّمُونَ لَهُ الحُقوقَ مِنْ خُمْسٍ وَزَكاةٍ.. وَمِنَ المُفْجِعِ فِي الاََمْرِ أَنَّ الّذِي وَشى بِأَمْرِهِ إِلى الرَشِيدِ هُوَ أَحَدُ المُقَرَّبينَ مِنَ الاِِمامِ مُوسى بنِ جَعْفَرٍ عليه السلام وَقَدْ دَفَعَهُ حُبُّهُ لِلدُنيا وطَمَعُهُ وَجَشَعُهُ إلى الوُقُوفِ بَيْنَ يَدي الحاكِمِ العَبّاسِيِّ لِيُفْضِي بِأَسرارِ الاِمامِ مُوسى بنِ جَعْفَرٍ الكاظمِ عليه السلام .. مِمّا جَعَلَ الرَشيدَ يَشْعُرُ بِخَوْفٍ شَدِيدٍ عَلى كُرْسِيِّهِ وَسُلْطانِهِ.. فَبَعَثَ إلى الاِِمامِ عليه السلام مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ لِيُودِعَهُ السِجْنَ..
وهنا تَوَقَّفْتُ عَنِ الكَلامِ.. فَالْتَفَتَ الشَيخُ إِلى الناسِ الُمجتَمَعِينَ حَولَنا مُخاطِباً إِيّاهُمْ : ـ هَلْ تَعرِفونَ مَاذا قَالَ هارُونُ الرَشِيدُ لِلاِِْمامِ مُوسى بنِ جَعْفَرٍ الكاظِمِ عليه السلام ؟ لَقَدْ قَالَ لَهُ : (كَيْفَ جَوَّزْتُمْ لِلناسِ أَنْ يُنْسِبُوكُمْ إِلى رَسُولِ اللهِ.. ويَقُولُونَ لَكُمْ يا أَبناءَ الرَسُولِ.. وَأَنْتُمْ بَنُو عَليٍّ.. وَإنّما يُنْسَبُ المرءُ إِلى أَبِيهِ لا إِلى اُمِّهِ..) ؟ أَلَمْ يَتَدَبَّرِ الرَشيدُ فِي القرآنِ الكَرِيمِ ؟! كَيْفَ لايَعرِفُ مَعنى قَوْلِ اللهِ تَعالى : (فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعالِوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا وَنساءَكُمْ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ على الكاذِبِينَ ) (آل عمران 3 : 61 .) وَقَدِ اتَّفَقَ المُسلِمُونَ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم دَعا عَلِيّاً وفاطِمَةَ والحَسَنَ والحُسينَ عليهم السلام .. فَكانَ عليٌّ نَفْسَ النَبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَكانَتْ فاطِمَةُ عليها السلام نِساءهُ وكانَ الاِمامان الحَسنِ والحُسينِ عليهما السلام أَبْناءه.. فَلِمَ يَسألُ هارُونُ الرشيدُ الاِمامَ الكاظِمَ عليه السلام هذا السۆالَ.. ؟ هَلْ هُوَ جَهْلٌ مِنْهُ.. أَمْ إِنَّهُ اعْتِراضٌ عَلى أَمرِ اللهِ.. ؟!
وهُنا سأَلَ أحدُ الحاضرِينَ : ـ وَماذا فَعَلَ هارونُ الرشيدُ بَعْدَ ذلِكَ ؟ فَأَجابَهُ الشَيْخُ : ـ جَعَلَ الاِمامَ الكاظِمَ عليه السلام يَتَنَقَّلُ مِنْ سِجْنٍ إلى سِجْنٍ.. حَتّى سَجَنَهُ آخِرَ الاََمْرِ في بَغْدادَ..
وَفِي سِجْنِ بَغْدادَ قُدِّم لِلاِِمامِ الكاظِمِ عليه السلام طَبَقٌ مِنْ تَمْرٍ مَسْمُومٍ.. وَتَناوَلَ مِنْهُ الاِمامُ.. فَصارَ يَتَلَوَّى مِنْ شِدَّةِ الاََلَمِ.. وبَقِيَ عَلى هذه الحالةِ ثَلاثَةَ أَيّامٍ يُعانِي مِنْ تَمَزُّقِ أَحْشائِهِ حَتّى فارَقَ عليه السلام الحَياةَ..
وبَعْدَ ذلِكَ شَاهَدْتُ الشَيْخَ يَتَّجِهُ نَحْوَ مَرْقَدِ الاِمامِ عليه السلام .. وَقَدْ مَشى خَلْفَهُ الحاضِرُونَ.. فَتَبِعْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَرفْتُ أَنَّهُمْ ذاهِبُونَ لِزِيارَةِ ضَرِيحِ الاِِمامِ مُوسى بنِ جَعفرٍ الكاظمِ عليه السلام .
الي الإيمان
ربط الطفل بالسلف الصالح