الإيثار والتفاني
الإيثار ، وهو : من الصفات الكريمة التي تۆدي إلىٰ سمُوّ الإنسان ، وتكامل شخصيته ونكرانه لذاته وتفانيه في سبيل الحق والخير ، وقد عني به الإسلام عنايةً بالغة ، وأثنىٰ علىٰ مَنْ يتخلق به ، فقد مدح القرآن الكريم جماعةً من نُبلاءِ المسلِمين وأفداذِهم ، لأنهم آثروا إخوانَهم على أنفُسهم ، قال تعالىٰ : ( وَيُۆْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (1) (2).
ولا تجد أجلىٰ مصداقاً للآية الشريفة سوىٰ مَنْ نزلت فيهم وأثنت عليهم ، وهم أهل بيت العصمة ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ الذين أثروا غيرهم علىٰ أنفسهم ، وناهيك عن صور الإيثار التي عرضها القرآنُ الكريم عنهم كما في سورة ـ هل أتىٰ ـ وغيرها ، كليلة مبيت أمير المۆمنين عليه السلام علىٰ فراش رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ليلةَ الغار مۆثرَهُ علىٰ نفسه ، حتىٰ تعجبت من إيثاره ملائكةُ السماءِ ، وباهى الله به ملائكتَهُ.
فكانت هذه الصفة من صفاتهم البارزة ، والتي ظهرت في سيرتهم مع الآخرين ، وقد حفلتْ سيرتُهم بألوان من صور الإيثار كما لا يخفىٰ ذلك علىٰ من يراجع سيرتهم وحياتهم الخالدة.
وكان من الطبيعي أن يتخلق بهذه الخصلة كلُّ من يعاشرُهم ، ويقتفي أثرهم ، ويستقي من أخلاقهم ، مثلُ حواريهم وأصحابهم المُخلصين ، والذين تخلقوا بأخلاقهم ، وتحلّوا بصفاتهم وحذوا حذوهم.
وفي طليعة هۆلاءِ الذين مَجّدهم التاريخ وحفظ ذكرهم ، أصحاب الحسين عليه السلام والذين مثلوا أروع صُورِ الإيثار التي خلدها التاريخ وأثنىٰ عليها.
ومن تلك الصور الخالدة ، وقوفُهم ليلةَ عاشوراء مع الحسين عليه السلام وقد عاهدوهُ على التضحية والشهادة بين يديه ، ووقف كلٌّ منهم يُعاهدُ الآخر علىٰ أن يۆثرَه علىٰ نفسه ، وكلٌ منهم يُريد أن يَسبق الآخر إلىٰ ساحة القتال !!
ولذا لم يعرف التاريخُ أصحاباً أفضل منهم ، وذلك بما حازوا عليه من صفات شريفة ، وخصال حميدة ، وملكات نفسية ، أهلتهم أن يكونوا أفضل الأصحاب وخيرهم ، ومن ذلك هو تسابقُهم إلى الشهادة ، بإخلاصٍ وتفانٍ في سبيل الحق ، غير مكترثين بالحياة ساخرين من الموت ، متعطشين إلى الشهادة.
قال أحد الأعلام : السبقُ إلى النفع غريزةٌ في الأحياءِ لا يحيدون عنها ولا يُلامونَ عليها ، وقد يۆولُ إلى النزاعِ بين الأشخاص والأنواع ، ولكنَّ التسابق إلى الموت لا يُرىٰ في العُقلاءِ إلاَّ لغايات شريفة تَبلغُ في مُعتقدِهم من الاهتمام مبلغاً قصياً أسمىٰ من الحياة الحاضرة ، كما إذا اعتقدَ الإنسان في تَسابُقه إلى الموت نيلَ سعاداتٍ ولذاتٍ هي أرقىٰ وأبقىٰ من جميع ماله في الحياة الحاضرة.
ولهذا نظائرُ في تواريخِ الغُزاة والمجاهدين ، ففي صحابة النبي صلى الله عليه واله وسلم ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) (3) وتسابقوا إلى القتال بين يديه ، مُعتقدين أن ليس بينهم وبين جنان الخلد والفردوس الأعلىٰ سوىٰ سُويعاتٍ أو تُميراتٍ يأكلونها أو حملاتٍ يَحملونها ، وهذا من أشرف السباق ، وموتُه أهنأ موتٍ ، وشعارهُ أقوىٰ دليلٍ على الفضيلة والإيمان ، ولم يَعهد التأريخُ لجماعةٍ بِداراً نحوَ الموتِ وسباقاً إلى الجنة والأسنةً مثل ما عهِدناهُ في صَحبِ الحسين عليه السلام.
وقد عَجم الحسينُ عليه السلام عودَهم واختبرَ حُدودَهُم ، وكَسب منهمُ الثقةَ البليغة ، وأسفرت امتحاناتُه كلُّها عن فوزه بصحَبٍ أوفياء وأصفياء وإخوانِ صدقٍ عند اللقاء ، قَلَّ ما فازَ أو يَفوزُ بأمثالهم ناهض ! فلا نجد أدنىٰ مبالغةٍ في وصفه لهم عندما قال : أما بعد ، فإني لا أعلمُ أصحاباً خَيراً مِن أصحابي ، ولا أهلَ بيتٍ أبرَّ وأوفى من أهلِ بيتي (4).
وكان الفضلُ الأكبرُ في هذا الانتقاء يَعودُ إلىٰ حُسن انتخاب الحسين عليه السلام وقيامهِ بكلِّ وجائب الزعامة والإمامة ، وقيامُ الرئيسِ بالواجب يَقود أتباعَه إلىٰ أداءِ الواجب ، واعتصامُ الزعيم بِمبدئِه القويم يسوقُ مَنْ معهُ إلى التمسُّك بالمبدأ والمسلك والغاية ، فكان سُرادق الحسين عليه السلام بما فيه من صَحبٍ وآلٍ ونساء وأطفالٍ كالماءِ الواحد لا يفترق بعضُه عن بعض ، فكان كلٌّ منهم مِرآةَ سيدهِ الحسين عليه السلام بحاله وفعاله وأقواله ، وكانوا يفتدونَه بأنفُسهم كما كان يتمنى القتلَ لنفسه قبلَهم (5).
جادوا بأنفسهم في حُبِ سيدهم والجودُ بالنفس أقصى غايةُ الجودِ
ومن صور الاقتداء والإيثار في هذه الليلة العظيمة هو حينما هبَّت الصفوةُ الطيبةُ من أنصاره ، وأهل بيته : بإيمانهم العميق بالمبدأ السامي للدفاع عن حريم الله ورسوله ، يتعاهدون على الشهادة والتضحية بين يدي سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ويتنازعون فيما بينهم أيُّهم ينزل ساحةَ الحرب قبل الآخر.
فهذا العباس بن أمير المۆمنين عليه السلام يَقفُ خاطباً في إخوته وبني عمومته ، مۆكداً عليهم ومُحفزاً لهم على القتال ، وأنهم أولُ من يَبرزُ إلى ساحة القتال ، وأنَّ الحِملَ الثقيل لا يقومُ به إلا أهلُه ... ؟!
فيجيبُه بنو هاشم وقد سَلوا سيوفَهم في وجهه : نحنُ على ما أنت عليه !!
وأما الأنصارُ فقد وقف حبيب بن مظاهر الأسدي وهم حوله كالحلقة ، قائلاً لهم ومۆكداً عليهم : فإذا صار الصباحُ فأولُ من يَبرزُ إلى القتالِ أنتم ، نَحنُ نقدمهم للقتال ولا نرىٰ هَاشمياً مُضرجاً بدمه وفينا عرقٌ يضرب لئلا يقول الناس : قدَّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم ؟!
فهزُّوا سيوفَهمُ ، وقالوا : نحنُ علىٰ ما أنتَ عليه !!
ولما رأت زينب هذين الموقفين من الأنصار وبني هاشم تعجّبت من إيثارهم وصدق ثباتهم وشدة عزمهم ، فسكن قلبُها واطمأنّت نفسها ، فأخبرت الحسين عليه السلام بذلك متعجّبةً مما رأتُه !!
فقال لها عليه السلام : يا اُختاه اعلمي أن هۆلاءِ أصحابي من عالم الذرّ وبهم وعدني جدي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (6).
وأما التفاني فهي صفحة أخرىٰ منقطعة النظير نقرۆها عند أنصار الحسين عليه السلام في ولائهم وإخلاصهم ، وقد ضربوا في ذلك أروع الأمثلة في صلابة عزمهم وتصميمهم على الدفاع عنه وعن أهل بيته ، ولم يكترثوا بتلك القوى الهائلة ، ولم يرتاعوا من القتل بل سخروا من الحياة واستهانوا بالموت ، واندفعوا نحو الحسين عليه السلام يعاهدونه على التضحية والفداء بالنفس ، وبكل ما يمكن الدفاع به لنصرته حتىٰ آخر رمق في حياتهم ، وهذا الموقف البطولي الباسل تجده واضحاً في مواقفهم ليلة العاشر ، وتشهد على ذلك كلماتهم التي تفيض بالفداء والتفاني في سبيله وذلك لمَّا أذن لهم بالانصراف عنه !!
وإليك بعضاً من تلك الكلمات التي يحار فيها العقل ويقف عندها بإعجاب وإكبار ، فمن كلماتهم ما يلي :
1) كلمة أهل بيته والتي يقولون فيها : لِم نفعل لنبقىٰ بعدَك لا أرانا الله ذلك أبداً ؟!
2) كلمة بني عقيل والتي يقولون فيها : لا والله لا نفعل تفديك أنفُسُنا وأموالُنا وأهلونا ، ونقاتل معك حتىٰ نرد موردك فقبّح الله العيش بعدك ؟!
3) كلمة مسلم بن عوسجة والتي يقول فيها : أما والله لا أفارقك حتىٰ أكسر في صدورهم رمحي وأضربُهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي ، ولا اُفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتُهم بالحجارة دونك حتىٰ أموت معك !
4) كلمة سعد بن عبد الله الحنفي والتي يقول فيها : والله لو علمتُ أني اُقتلُ ثم أحيا ثم اُحرقُ حيَّاً ثم اُذرُّ يُفعلُ ذلك بي سبعين مرةً ما فارقتُك حتى ألقىٰ حِمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلةٌ واحدةٌ ثم هيَ الكرامة لا انقضاء لها أبداً !!
5) كلمة زهير بن القين والتي يقول فيها : والله لوددت أني قُتلتُ ثم نُشرت ثم قُتلتُ حتىٰ أُقتل كذا ألف قتلةٍ وأن الله يدفعُ بذلك القتل عن نفسك وعن أنفُس هۆلاء الفتية من أهل بيتك !
6) كلمة جماعة من أصحابه والتي يقولون فيها : والله لا نُفارقُك ، ولكن أنفُسَنا لك الفداء تقيك نحورنا وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قُتلنا كُنا وفينا وقضينا ما علينا (7).
7) كلمة بشر الحضرمي والتي يقول فيها : أكلتني السباعُ حيّاً إن فارقتُك (8).
8) كلمة نافع بن هلال والتي يقول فيها : ثكلتني أمي ، إن سيفي بألفٍ وفرسي مثلهُ ، فو الله الذي مَنَّ بِكَ عليَّ لا فارقتُكَ حتىٰ يَكلا من فري وجري (9).
9) كلمة القاسم بن الحسن عليه السلام لمَّا قال له الحسين عليه السلام يا بني كيف الموت عندك ؟ قال : يا عم فيك أحلىٰ من العسل (10).
فهذه بعضٌ من كلماتهم والتي تفيض بالتفاني والإخلاص فهذا الحسين عليه السلام ينطق بالحق في ما يقوله عنهم حين قال لأخته زينب عليه السلام : والله لقد بلوتُهم فما وجدتُ فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلىٰ محالب أمه.
اعداد: سيد مرتضى محمدي
القسم العربي :تبيان
المصادر:
(1) سورة الحشر : الآية 9.
(2) راجع : النظام التربوي في الإسلام للقرشي : ص 299.
(3) سورة الأحزاب : الآية 23.
(4) تاريخ الطبري : ج 4 ، ص 317 ، اللهوف : ص 39.
(5) نهضة الحسين للشهرستاني : ص 113.
(6) معالي السبطين للحائري : ج 1 ، ص 34ظ .
(7) تاريخ الطبري : ج 4 ، ص 318 ، الإرشاد للشيخ المفيد : ص 231.
(8) اللهوف : ص 4ظ ، بحار الأنوار : ج 44 ، ص 392.
(9) الدمعة الساكبة : ج 4 ، ص 273.
(10) معالي السبطين : ج 1 ، ص 343.
السبب الغيبي لخلود ثورة الحسين(ع)
ساعة الصفرواختيار الطريق
دقائق ولحظات من ساعات التوديع
البعد التربوي لواقعة الطف