لا تسبوا الدنيا
الاعتقاد بأن الدنيا سبب في وقوع الظلم على أحد اعتقاد باطل فالدنيا ليست سوى الزمان والمكان اللذين يعيش الإنسان في إطارهما ثم ينتقل إلى عالم آخر، والظلم انما يصدر من العاقل المختار وليس للزمان والمكان من عقل واختيار، وعليه يكون سبُّ الدنيا من العبث وهو أمر مرجوح لا ينبغي صدوره من المۆمن وقد وردت روايات تنهى عن سبّ الدنيا وسب الدهر وسب الزمان.
ورد عن الرسول الكريم (ص) انه قال:"لا تسبّوا الدنيا فنعم مطية المۆمن، عليها يبلغ الجنة وينجو من النار". (1)
وورد عن علي (ع) انه قال: "لا تسبوا الدنيا فإن فيها تصلُون وفيها تصومون وفيها تعملون".(2)
وفي سبِّ الدهر ورد عن الرسول الكريم (ص) أنه قال: "لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل يقول إن الدهر والأيام والليالي لي أُجدِّدها وأبليها وآتي بملوك بعد مولوك"(3).
وفي سبِّ الزمان ورد عن جابر عن الرسول (ص) أنه قال: "لا تسبوا الليل والنهار ولا الشمس ولا الريح فإنها رحمة لقوم وعذاب لآخرين"(4).
وبناء على ما تقدم يتبين أن سبَّ الدنيا وكذلك الدهر أمر مرجوح، نعم يصح ذم الدنيا لغرض التزهيد فيها والدعوة لعدم الاغترار بزخارفها وذلك يعني الدعوة لعدم الانسياق مع رغبات النفس وشهواتها وليس بمعنى الذم للزمان والمكان.
وكذلك يصحُّ ذم الدنيا بمعنى ذم الظلمة المالكين لمقدرات الناس والمستأثرين بحقوقهم فيكون ذم الدنيا بالمعنى الأول والثاني كنائي ومجازي.
ذكر الله وحده الذي يهب الروح السلام
يتعرض جسم الإنسان لبعض الحالات الحسنة والسيئة، وكذلك فإن روحه أو نفسه هي الأخرى تتعرض لحالات متشابهة بالرغم من أن الاختلافات العديدة بين الروح والجسم، فالجسم مثلاً له حجم ووزن في حين لا تمتلك الروح ذلك، فالقليل من الطعام الذي يرد بدن الإنسان سوف يۆثر على وزنه، ولكن لو أضيف عالم من الفكر والعلم لما طرأ تغير على وزنه أبداً.
كما أن سعة الجسم محدودة، أما الروح فلا حدود لها، فكل لقمة يتناولها الإنسان تحتل حيزاً من معدته، وشيئاً فشيئاً تمتلئ المعدة حتى يشعر الإنسان بالشبع ومن ثم يكون عاجزاً عن تناول لقمة إضافية، حيث يبقى كذلك إلى أن تصرّف المعدة الطعام، في حين أن الروح لا تعرف الشبع ابداً فكلما غذيتها بالعلم والمعرفة ازدادت جوعاً وقالت:(رب زدني علماً). [طه: 14] فالروح لا تصرّف المعلومات الأولى لكي تستعد لاستقبال المعلومات الجديدة؛ يقول الإمام علي (ع): "كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع".
كما أن الجسد يضعف شيئاً فشيئاً ويشيخ أما الروح فإنها لا تشيخ أبداً. الجسد يموت ويتلاشى ويتحول إلى ذرات متناثرة، ولكن الروح لا تعرف الموت أو الفناء، الروح باقية تنتقل إلى عالم آخر إذا ما تلاشى الجسد. قال الرسول الأكرم (ص): "خلقتم للبقاء لا للفناء".
في الوقت الذي توجد فيه اختلافات بين الروح والجسد فإن هناك شبهاً بينهما في نواح عديدة، فالجسد لكي يسعد وينشط يحتاج إلى أنواع من الأطعمة والأشربة، والروح هي الأخرى تحتاج إلى غذاء خاص، وغذاۆها هو العلم والحكمة والإيمان واليقين. وكما أن الجسد يذبل إذا لم يصله الغذاء الكافي فإن الروح هي الأخرى تذبل إذا لم يصلها غذاۆها الخاص.
يقول الإمام علي (ع): "إن النفوس تكل كما تكل الأبدان فاهدوا إليها طرائف الحِكم".
والروح تمرض كما يمرض الجسد، ولذا فهي تحتاج إلى علاج ودواء، فإذا كان الجسد يمرض بسبب خلل ينشأ في ميزان مزاجه أو في مجموع المواد التي يتألف منها نقصاً أو زيادة، وبشكل عام خلل في المعادلة التي خلقه الله عليها؛ فإن الروح لها معادلتها وميزانها الخاص بها، الروح تحتاج إلى الحب وتحتاج إلى نظام أخلاقي وتحتاج إلى العلم والمعرفة، وتحتاج إلى الإيمان والعقيدة، وتحتاج إلى سند تعتمد عليه وترجوه في كل أعمالها، وكل هذه الأشياء لازمة لاستقرار وتعادل ميزان الروح وإلا فإن أي خلل يهدد هذا التوازن سوف يسلب الإنسان سعادته واستقراره وطمأنينته.
إن بعض الناس يشعرون في أعماق نفوسهم بالضجر. إن هذا القدر من الإحساس الذي يحرمهم من تذوق طعم السعادة ويسلبهم الشعور بالاستقرار والسلام يۆدي بهم إلى الذبول والقلق دون أن يدركوا العلة في ذلك، فبالرغم من توفر كل أسباب الحياة إلا أنهم لا يشعرون بالرضا أو السعادة.
إن على هۆلاء الأفراد أن يۆمنوا بوجود جذب روحي.. يجب أن يذعنوا لهذه الحقيقة ويعترفوا بأن الإيمان حاجة فطرية وتكوينية بل إنها أسمى حاجاتنا الإنسانية.
فإذا انتهلنا من نبع الإيمان وأضاء نور الله أرواحنا، وتجلى الله في أعماق نفوسنا أدركنا معنى السعادة واللذة والبهجة. يقول الله سبحانه في محكم كتابه الكريم: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). [الرعد: 28]
وقال علي (ع):"إن الله جعل الذكر جلاءً للقلوب تسمع به بعد الوقرة وتبصر به بعد العشوة وتنقاد به بعد المعاندة (ع)".
المصادر:
1- كتاب الدعاء -الطبراني- ص 568.
2- كتاب الدعاء -الطبراني- ص 568.
3- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج 8 ص 71.
4- الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج 5 ص 365.
5- نهج البلاغة: 217
الزهد في الدنيا سيرة الانبياء والاولياء