دروس من حياة نوح (ع) -2
من المحطات الملفتة في حياةالنبي نوح (ع)، أن الله عز وجل بعد أن رأى أن القوم تمت عليهم الحجج، قال لنوح: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}.. إن البعض يستفيد من هذه الآية كإشارة خفية للشفاعة، أي يا نوح!.. أنا كَربّ، فقد قررت الإهلاك، ومن الآن فصاعدا لا تتوسط بيني وبين قومك.. وهذا أيضا كمال الشفقة، حيث أن الله عز وجل يرى نوحا في مظان الشفاعة.. ومن الممكن بعد صدور الأمرالإلهي بالهلاك، أن يقول: يارب!.. ارفق بقومي، فيقول: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}.
هذه ثمرة تسعمائة وخمسين عاما {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}!.. أي يا نوح أنت تحت إشرافنا أينما كنت، وهذه السفينة ستبتلى بالطوفان، ولكن أنت بأعيننا.. فهنيئا لمن وصل إلى هذا المقام!.. مقام أن يكون بعين الله عز وجل: في حلّه، وترحاله.. وفي شبابه، وكبر سنه.. وفي دنياه، وآخرته.. عندئذٍ ماذا ينقصه إذا كان بعين الله عز وجل؟.. وليكن في أحلك الظروف، فهو في أحسن الحالات.. (إلهي ماذا وجد من فقدك؟.. وماذا فقد من وجدك)؟..
{احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}.. والتي استثنيت من أهل نوح، وغرقت مع الغارقين، هي زوجته.. فزوجته خانت زوجها بنص القرآن الكريم: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}.. طبعا هنا الاعتقاد بأن الخيانة ليست عائلية وأسرية، فالأنبياء منزهون عن ذلك.. ولكن الخيانة هنا بمعنى الانحراف عن خط الأنبياء، والانحراف عن الخط خيانة.. فهذه المرأة التي عاشت مع النبي مصيرها مع عبّاد الأوثان.. وليس هناك نص يدل على أن امرأة نوح كفرت بالله، ولم تۆمن بالتوحيد، ولكن الخيانة لأمور أخرى.. فالقرآن الكريم استعمل الخيانة، ولم يبين هذه الخيانة.. إن الانحراف عن المنهج هو خيانة من الخيانات، وان تظاهر الشخص بأنه في ضمن ذلك المنهج.
{وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.. نحن عادة نسمي في أول العمل ابتداءً، ثم في أثناء العمل ننسى نسبة العمل إلى رب العالمين، ولكن نوحا قال: {بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}؛ أي في أول العمل، وفي ختام العمل.. فهل أحد منا ذكر ربه في ختام العمل، عندما وصل إلى الهدف؟.. إن الإنسان عادة ينسى ربه إذا حقق هدفه في الحياة.. فإذن، شعارنا جميعا في كل الأوقات: بسم الله مجراها ومرساها، في أول العمل، وآخر العمل، وعند الإقدام، وعند النجاح.. علينا أن نجعل الإقدام محفوفا بذكره، وموصولا به جل جلاله، وعمّ نواله.
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ}.. لاحظوا شفقة الأبوة، لم يقل: دعا.. ولم يقل: قال.. وإنما نادى؛ فيبدو أن نوحا رفع صوته بهذه الدعوة، لنجاة ابنه من الطوفان.. ولكن انظروا إلى سوء العاقبة: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.. إن نوحا سمع من الله تعالى وعدا، قال: أركب في هذه السفينة من كل زوجين، وأركب أهلك.. فظن أن هذا الخطاب ينطبق على ولده {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}.. إن نوحا يستحق مقام العزم، لأدبه مع رب العالمين.. إنسان يرى ولده في حال الغرق!.. وأي غرق؟!.. غرق مع الكافرين!.. فمن الطبيعي أن الإنسان يقول: يا ربي، أنقذ ولدي!.. ياربي!.. أسألك بأسمائك، وبأحب العباد إليك، أن تنقذ ولدي مما هو فيه!.. ولكن نوحا قام بإشارات.
{إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}.. فهذا أدب ويا له من أدب!.. من هذا النبي الذي يرى ولده يغرق.. ومع ذلك يتكلم في ما يطابق الأدب في خطابه مع الله عز وجل.. فرغم أنه كان مۆدبا، ولم يذكر أمرا قبيحا يعاتب عليه.. ولكن انظروا إلى التعامل الدقيق من رب العالمين مع عباده الصالحين!.. {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.. يقول: هذا الولد ليس إنسانا فاسدا فحسب!.. بل هو عمل غير صالح، {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}.. ثم أخذ يناجي ربه مناجاة التائبين الخائفين فقال: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}.. أي يا رب اعف عني، فأنا سوف لن أطلب منك ما ليس لي به علم.
هنا درس بليغ، وهنا مفتاح لاستغفار الأنبياء والأئمة عليهم السلام.. فإمامنا علي عليه السلام في دعاء كميل هكذا يتكلم مع ربه، وإمامنا السجاد في الصحيفة هكذا يتكلم، ونوح هكذا يتكلم.. فيبدو أن القضية قضية تذلل، وتودد إلى الله عز وجل.. قطعا إذا طرحنا هذه القضية على العرف، فإنه لا يرى منقصة في نوح أن يطلب النجاة لولده، ولكن مع ذلك بعد الخطاب الإلهي، يتذلل نوح لربه قائلا: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}.. إنها مناجاة، وتذلل، وشكر، وتقرب.. ولكن في قالب الاستغفار والإنابة إلى الله عز وجل.
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي}.. هذه الآية من الآيات الموزونة وزنا موسيقيا في القرآن الكريم، وعندما تُقرأ هذه الآية من قِبل من يتقن تلاوة القرآن الكريم، تكاد تنتاب الإنسان حالة من الطرب المعقول.. {وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.. نعم، هذه كانت عاقبة القوم الذين لم يۆمنوا بالله تعالى.
الدرس الأخير من حياة نوح (ع): {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.. كل من على وجه الأرض ماتوا جميعا، ولم يبق سوى سفينة صغيرة، فيها من كل زوج اثنين.
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ}.. نعم، هذه البشرية اليوم، وهذه الصور من الحيوانات والطيور وما شابه ذلك.. كل ذلك من نسل ما حمل في سفينة نوح.
فإذن، إن أراد الله عز وجل أن يبارك، فهكذا يبارك.. يبارك ظاهرا في كثرة النسل، والبشر، والحيوانات، والطير، من تلك السفينة.. ويبارك باطنا، بأن جعل النبوات والأوصياء، من ذرية نوح عليه السلام.. يذكرنا هذا بذلك الحديث القدسي: (إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت.. وليس لبركتي نهاية).. أي إذا باركت في وجودٍ، أو في إنسانٍ، أو في شيءٍ، أو في سفينة، وفيما حُمل في سفينة؛ فهذه هي البركات.. صبر تسعمائة وخمسين سنة، صباحا ومساء.. ولكن انظروا إلى هذه العاقبة الحميدة!.. العاقبة التي خُلدت في حياة البشرية، فهو ثاني الآباء، ومنشأ سلسلة بشرية، بل حياتية على وجه الأرض.
اعداد :سيد مرتضى محمدي
دروس من حياة نوح (ع) - ١
دروس من حياة نبي الله لوط (ع) - ١
دروس من حياة نبي الله لوط (ع) -2