وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا
دروس من حياة يوسف (ع) -١٠
{وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا}.. هنا ما هو هذا السجود؟.. هل هو سجودٌ لله عز وجل؟.. أو سجودٌ ليوسف؟.. فإذا قلنا: أن السجود لله عز وجل، فإنه هذا خلاف سياق الآية، لأن الآية تقول: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا}.. فسياق الآية يدل على أنه لازال الكلام عن يوسف، ولكن كيف نصدق بأنه يۆذن لنبي كيعقوب، أن يسجد لولده سجوداً.. ونحن نعلم أن السجود من الأمور المختصة بالله عز وجل؟!..
الجواب هنا، هو ما نقل في قصة آدم عليه السلام: وكأن القرآن يريد أن يقول: أيها البشر!.. إن أكثر الأمور التصاقاً بي كربّ، وأكثر الأمور خصوصيةً وأهميةً وارتباطاً بي، فإذا قلت لكم: أيها البشر اعملوا بهذه الخصوصية للآخرين!.. ولكن بأمري، فعليكم التعبد.. فأنا أريد أن أُكرم نبي الله آدم، فأعطيه المزية الخاصة بي -وهي السجود لي- فعليكم أن تسجدوا.. وهذا المعنى الذي لم يتقبله إبليس: {اسْجُدُواْ لآدَمَ}.. وهنا أيضاً يعقوب نبيٌ ملهم، فما قام به إنما قام به من منطلق النبوة والإرتباط بعالم الوحي، فخر لولده ساجداً، لأن هذا الولد يحمل المعاني الإلهية.. والله عز وجل كشف ليعقوب الدرجة التي فيها يوسف، فالسجود هو ليوسف ظاهراً، والسجود لآدم ظاهراً.. ولكن لباً وحقيقةً لمن أمر بالسجود، وهو الله سبحانه وتعالى؟..
فإذا جاء الخطاب: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.. أي أئمة الهدى عليهم السلام، فالأمر طبيعي جداً.. وهذا الشعار الذي رفعه الخوارج: (أنه لا حكم إلا لله عز وجل) فإن هذا منطق إبليس، الذي لم يستوعب أن هذا المعنى الخاص بالله عز وجل، يمكن أن يسري إلى عباده.. فالحاكمية لله عز وجل، ولكن لوليه بإذن الله عز وجل.. والعلم بالغيب لله عز وجل، ولكن لوليه بإذن الله عز وجل.. والإحياء لله عز وجل، ولكن لعيسى عليه السلام بإذن الله عز وجل.. والإماتة لله عز وجل، ولكن لعزرائيل بإذن الله عز وجل.
فإذن، إن المسألة مستوعبة تماماً، وهي أن نجعل النبي عِدلاً للقرآن الكريم: في الحاكمية، والحجية.. ونجعل العترة بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عِدلاً للسنة النبوية في لزوم الإتباع، ولا ضير في ذلك.. ومما يۆيد أن السجود كان بحسب الظاهر ليوسف أنه قال: {يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُۆْيَايَ مِن قَبْلُ}.. ألم يقل في أول السورة: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}؟.. فإذن، إن هذا المعنى هو الذي ينسجم مع صدر السورة ومع سياق الآية.
{مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.. إن المۆمن من الممكن أن يكون سداً منيعاً في حرز الله عز وجل، فلا سلطان للشيطان عليه لأنه مخلص.. ولكن الذين يعاشروننا، واللصيقين: كالأسرة، والمجتمع، والأولاد، والجيران، وذوي الحقوق، والأرحام.. إن هۆلاء ليسوا بمخلصين، بل أن البعض منهم من الفاسقين.. فمن الطبيعي أن يدخل الشيطان بينك أنت المخلص -إن كنت مخلصاً- وبين من حولك من الذرية، والأرحام، والوالدين، والزوجة، وما شابه ذلك.
وعليه، فإنه لا يكفي أن تدفع عن نفسك الشيطان، بل عليك محاولة إنقاذ غيرك.. فإذا رأيت في ذهن زوجتك سوء ظن، فعليك محاولة تخليصها من ذلك؛ لئلا يتخذها الشيطان منفذا إليك.. وكذلك إذا ابتليت بأبوين يسيئان الظن، وبأرحام كذلك، فإنهم سوف يشغلونك عن الله عز وجل.. إن الشيطان يأس منك، ولكن لم ييأس من الآخرين، فمن الضروري جداً أن يطلب الإنسان من ربه أن يُبعد الشيطان عنه، وعن كل من يرتبط به.. إن الشيطان لا سلطان له على المخلَصين، ويوسف (ع) من المخلَصين، ومع ذلك جعل نزغ الشيطان بينه وبين إخوته.
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}.. هنا يعيش يوسف حالة مناجاة مع الله سبحانه وتعالى.. إن المُلك أعم من المُلك الظاهري والمُلك الباطني، وأي مُلك أعظم من النبوة!.. وأن يكون الإنسان مخاطباً من الله مباشرةً عبر المَلك أو تكليماً.
{وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}.. هذا العلم الخاص اللدني، حيث أنه كان يعبر المنام، وما له من الأسرار مع ربه.. إلى أن يقول: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}.. فهو أصبح على خزائن الأرض، وعلمه من تأويل الأحاديث، ويأتي نبيٌ كيعقوب وهو مخلَصٌ أيضاً ويسجد له.. ولكن أمنية يوسف (ع) {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}.. أي يطلب أن يختم له بالعاقبة الحسنة، ولم يعقد هذه الخاتمة، لم يجعل لهذه الخاتمة مواصفات كثيرة {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}.. أي أن أكون مطيعاً لك يا رب في كل شۆون حياتي.
يبدو أن هذا الإسلام الذي نحاول أن ننتقص من معناه، فعندما نقول: فلان مسلم!.. وكأنه تعبيرُ ساذج، وتعبير بسيط.. والحال بأنه تعبيرٌ فخمٌ ضخمٌ أن يكون الإنسان بين يدي الله عز وجل: لا رأي له، ولا قرار له، ولا خطة له، ولا منهج له.. إن الوفاة على الإسلام فرع الحياة على الإسلام، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.. إن الذي التحق غير الملحق -والله العالم بهذا التعبير- أي أن فيه إشعارا، بأن هناك جماعة متفوقة من عبادك الصالحين، فيارب ألحقني بهم.
{فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.. هنا نربط بين كلمة الفاطر والولاية.. فلماذا اختار يوسف من بين الكلمات تعبير الفاطر؟.. وكأنه يريد أن يقول: يا ربِّ!.. ولايتي لك فرع الفاطرية.. فأنت الخالق، وأنت الفاطر، وأنت الموجد من العدم، ومَن غيرك يستحق أن يكون ولياً لي؟!.. إنما أنا وليٌ لك، وإنما أنا معتصمٌ بك، وإنما اتخذتك إلهاً في اتباع الشريعة؛ لأنك صاحب التكوين، ولأنك الذي خلقت هذا الوجود وابتدعته من العدم، فأنت المستحق ذلك.
لو تذكرنا في حياتنا اليومية، صفة الفاطرية والخالقية.. هل يبقى لدينا قلقٌ او خوف؟!.. وهل يبقى لدينا يأس من عدم قضاء بعض الحوائج؟!.. إن الذي فطر السماوات والأرض، قلبها من الوجود إلى العدم.. ألا يحوّل الوجود من عسر إلى يسر؟.. ألا يفتح لك الأبواب المغلقة؟!.. فالذي خلق هذا القصر بعد عدم، أليست بيده مفاتيح الأبواب ليفتح لك الأبواب؟!..
فإذن، إن مسألة الفاطرية والخالقية من الصفات التي تورث الحب، وتورث الإنقطاع، وتورث الإلتجاء، وتورث الغنى بالله عز وجل، والإحساس بالفقر المطلق بين يديه.
{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}.. إن ربنا يمنّ علينا بذلك إذ يقول: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}.. من الطبيعي أن هذه الآيات آيات عبر، وآيات إيمان.. ولكن الله عز وجل يقول في عتابٍ بليغ، وهذا العتاب متكرر في القرآن، ويا له من عتاب!.. {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُۆْمِنِينَ}.. أي ضربنا لكم الأمثال، فذكرنا لكم قصة يوسف، ولكن من المتعظ؟!..
إن شبابنا قديماً وحديثاً، وأهل الأهواء، والمراهقين، لو تذكروا هذه القصة، وكيف أن لحظات، ولعلها دقائق تهيأت له، وأغلقت الأبواب وراودته.. لنفترض أن ذلك في ساعة من الزمان، ولكن استقام فيها يوسف {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.. وإذا بهذا الخلود في الذكر، سورة من القرآن تتناول هذا النبي العظيم في خصوصياته الدقيقة، ولكن من المعتبر؟!..
إن من السخافة أن لا يُعمل بمضمون هذا الحديث: (وشتان بين عملين: عمل تذهب لذته، ويبقى تبعته.. وعمل تذهب مۆونته، وتبقى أجره).. فـ(طوبى لمن ترك شهوة حاضرة، لموعود لم يره).. وهذا الموعود يُرى في بعض الحالات، فلم يۆجل رب العالمين أجر يوسف (ع) إلى الجنة، بل في الدنيا علمه من تأويل الأحاديث، وجعله حاكماً، وجعله عزيزاً، وأسجد له أبويه، وخلد ذكره.
نعم، إن الذي يتعامل مع رب العالمين، هكذا يُكتب له الخلود في الدنيا وفي الآخرة، وتُفتح له الأبواب المغلقة.. ويصل إلى درجة أنه لو يُخير بين هذه الشهوات، وبين الإنقطاع إلى الله في السجن، يرى بأن السجن مع الخلوة مع الرب، أحب إليه من الاستمتاع في القصور بمعصية الله عز وجل.
اعداد :سيد مرتضى محمدي
الشيطان في المرصاد
اليد الإلهية
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ