وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ
دروس من حياة يوسف (ع) -٨
إن الأنبياء بأنفسهم لا يغنون عنا شيئا، كما قال يعقوب.. ولكن إذا صاروا وسطاء، وإذا شَفَّعوا، أو تشفعوا، وإذا أصبحوا السبب المتصل بين الأرض والسماء.. فلا مانع من ذلك، كما نلاحظ في هذه السورة.
(وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).. ولعل أيضا يعقوب عندما قال: (وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ).. قيل: حتى يستفرد بهم يوسف.. فلما دخل عليه أخوه من أبيه وأمه قال له: (إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ).. وهذه حكمة أخرى من حكم الدخول من أبواب متفرقة.
(فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ).. إن هذه من الآيات الغريبة في القرآن الكريم، يريد يوسف أن يبقي أخاها عنده، فجعل السقاية في رحلِه (ثُمَّ أَذَّنَ مُۆَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ).. فتعجب إخوة يوسف؛ فهم لم يسرقوا شيئا، كفتْهم السرقة التأريخية القديمة، ولكن الآن لم يأخذوا شيئا.
(قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ).. فقال الشرطة أو الأعوان: (فَمَا جَزَآۆُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُواْ جَزَآۆُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاۆُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)، أي هذا يُستَرَّق ويُستَعبد، لثقتهم بأنفسهم أنهم لم يأخذوا شيئا.
(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ) لئلا تتوجه إليه التهمة (ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ).. فقال: ما دام وجدنا الصواع في رحال هذا الأخ، فعليه أن يكون عبدا مُسترقـًّا، فأُخذ من بين الإخوة، وانضم إلى أخيه يوسف عليهما السلام.. ويقال: بأن هذا مع تنسيق مع يوسف، وتدبير بينه وبين أخيه.. فرب العالمين أراد أن يستل هذا الأخ من بين الأخوة، ويرجعه إلى أخيه يوسف، ولكن بهذا التدبير!..
الآن كيف نوفق بين مسألة الاتهام بالسرقة، وهو لم يسرق شيئا؟.. واضح أن القضية فيها تمثيل، لأخذ هذا الولد؛ لأنه ليس هناك سبيل لأجل إبقائه إلا هذه الحركة -فالعلم عند الله عز وجل- يقول بعضهم: بأن هذه التهم، لم تكن من يوسف.. فهۆلاء الذين كانوا مع يوسف، فقدوا صواع الملك، فبظنهم أن الصواع قد سُرق.. والحال أنه نُسِّـق مع هذا الأخ على اعتقادهم أنه سُرِق، فالآية تذكر ذلك.
وعلى كلٍّ إن الله عز وجل فعّال لما يشاء، فله طرقه التي لا تأتي بالبال من أجل أن ينفذ أمره.. فهذه الحركات من كان يهتدي لها؟.. وهذه التمثيلية من كان يتقنها أو يكتبها، لأجل أن يجمع بين يوسف وبين أخيه؟..
إن يوسف أخذ أخاه الذي من أبيه وأمه، فأخذوا يلتمسونه (قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).. فهم مُتَّهمون، ولهم تجربة سابقة مع أبيهم، إذ سرقوا يوسف (ع).. (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ).. فالأحداث كلها سيقت لأجل تثبيت هذا الأمر، وهم صدقوا هذه التمثيلية.. (ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ).
ثم ننتقل بعد ذلك إلى وصف القرآن الكريم لحالة يعقوب: (وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ).. فلا زال يتذكر ولده، الذي كان فيه سيماء الأنبياء، وجمال الخلق (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).. إن البعض قد ينظر إلى هذه الآيات، ويرى أنه لماذا يبالغ يعقوب في هذا الحزن؟.. والحال أن هذا الولد رجع إليه أخيرا!..
إن هذا درس العاطفة، ودرس الحنان: فالإنسان المۆمن يتألم لما يرِد عليه.. إن الإمام السجاد –عليه السلام- كان يبكي صباحا ومساء، عندما كان يُعطى شربة من الماء، فيتذكر أباه الذي قُتل عطشانًا على صعيد كربلاء.. وعندما ينظر إلى شاة تُذبح.. فحقَّ له ذلك؛ لأن عاطفة الإمامة من أقوى العواطف، وخاصة أن المفقود ولي من أعظم أولياء الله عز وجل.
فهل حَقّ ليعقوب أن يبكي للفراق، ولم يحق لأئمتنا –عليهم السلام- أن يبكوا هذا البكاء، لما وقع من القتل، والتشريد، والسبي لبنات النبوة صلوات الله وسلامه عليهم؟..
إن يعقوب –عليه السلام- يعطينا درسا آخر في مسألة الصبر، وعدم اليأس من رَوح الله.. يقول: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ).. لأن يعقوب يعلم بأن ولده لم يمت، ويعلم أنهم جاءوا بدم كذب.. هو له ولد ٌمفقود، فله الأمل في أن يصل إلى مفقوده (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
فلو أننا تشبهنا بيعقوب –عليه السلام- تجاه مسألة غيبة الولي.. هذا الإمام الذي نراه يعيش بين ظهرانينا، ويشهد حَجنا، يشهد مجالسنا، ويدعو لنا، وفي ليالي القدر تُعرض أعمالنا عليه.. فيعقوب –عليه السلام- لفراق هذا العزيز (ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).. لذا، فإنه يتوجب علينا أن نعيش هذه الحالة من الفقد، تجاه صاحب الأمر صلوات الله وسلامه عليه.. هذا الإمام الذي لو ثُنيت له الوسادة، ولو أُعطيت له مقاليد الحكم، ولو حكم في الأمة.. لأرجع كل شيء إلى نصابه، ولرفع هذا الذل الذي أصاب المسلمين، لفقدهم هذه القيادة الإلهية.. فأكثروا من الدعاء له بالفرج!.. وتشبهوا بيعقوب عليه السلام.. إن أحدنا لا يصل إلى هذه الدرجة، أن تبيض عيناه من الحزن فهو كظيم.. ولكن أن يتألم، وأن لا ييأس من روح الله عز وجل، وأن يدعو للقاء به في دولته الكريمة.. فنحن نحب أن نلتقي به في موقف من المواقف، و لكن اللقاء الأعظم، واللقاء الأبرك، هو ذلك اللقاء الذي يكون فيه فرج الأمة، وعندما يُري نفسه الأمة، ويُري نفسه أهل الأرض: مسلمهم وكافرهم.
على كلٍّ، فإن لسان حالنا دائما هذه العبارات، التي ذكرها إخوة يوسف عندما دخلوا عليه قالوا: (يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ).. فقد دخلوا من باب الاستعطاف، فهم قومٌ اتُهموا بالسرقة، ولهم سابقةٌ غير حسنة.. ولكن هنا دخلوا من باب الذل، والاستعطاف، والتصدق.. وكما هو معلوم أن الصدقة لا معاملة في البين، فليست هنالك بضاعة وثمن ومثمن.. فالمتصدق يعطي المال جزافا، ويعطي المال بلا عوض، ويعطي المال بلا استحقاق.. فهذه هي الصدقة، وإلا كان في الأمر معاملة، ثمن يُعطى وبضاعة تُستلم.. ونحن بين يدي الله عز وجل، كذلك نقول: يا رب!.. ليس لنا ثمن نعطيك لتعجل في فرج وليك، فلم نقدم نفوسا طاهرة، ولم نقوم بأعمال زاكية.. ولكن تصدق علينا بفرج وليك تفضلا وتحننا.. إننا نسألك هذا الأمر فضلاً لا عدلاً.. (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)اعداد :سيد مرتضى محمدي
الشيطان في المرصاد
اليد الإلهية
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ