ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
دروس من حياة يوسف (ع) -٧
إن من المحطات الملفتة في هذه السورة المباركة، السورة التي تعلمنا درس العفة، ودرس التفويض إلى الله عز وجل، ودرس أن الله عز وجل يقلّب عباده بين يدي مشيئته: عسر فيسر، أو يسر فعسر؛ كي يعلم العبد أن المدبر هو رب العالمين.
انظروا إلى هذا الملك الذي حكم علىيوسف بالسجن، بعدما رأى الآيات!.. وهذا القلب الذي قسى، إلى درجة أن يلقي في غياهب السجون عبدًا صالحًا، مثل يوسف رغم انكشاف الآيات: شهادة الشاهد، والقميص الذي قُدّ من دبر.. ولكن سبحان من يقلّب القلوب!.. وسبحان الذي يجعل القلوب عاليها سافلها!.. فـ(قلب المۆمن بين أصبعين من أصابع الرحمن)، إن الله عز وجل خلق القلب، ولم ينفِ عن نفسه حق التصرف في القلوب.
وإذا بالملك يقول: (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي).. ليس إخراجٌ من السجن، ولا عفوٌ عن ذنب فحسب!.. وإنما استخلاصٌ واتخاذه من خواص بلاطه.. ولما كلمه قال: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ).. إن الأمور مرهونة بأوقاتها، فالله عز وجل في ذلك اليوم، لم يتصرف في قلب العزيز أو الملك، ولو أراد لقلّب فۆاده كما قلّبه اليوم.. ولكن الله عز وجل له حكمةٌ، ويعلم كيف يصرّف الأمور.
ولا شك أن الفترة التي قضاها يوسف بالسجن، كانت من الفترات المتميزة في حياته -صلوات الله وسلامه عليه.. إن النبي يوسف إلى حد كبير يشبه النبي سليمان، في أنهما عاشا المُلك الدنيوي والمُلك الأخروي.. وكذلك إمامنا المهدي -صلوات الله وسلامه عليه- سيُجمع له الملك الظاهري والملك الباطني.
وأخيرا جاءه الفرج!.. فإذن، إذا رأيت أن حاجتك بيد ظالم، فلا تقل بأن هذا الظالم لا يستجيب لأمر الله تعالى!.. وإنما عليك أن تسأل رب العالمين، أن يقلّب فۆاده، كما قلّب فۆاد فرعون موسى، وكما قلّب فۆاد هذا الرجل، هذا الملك العزيز الذي حكم ما حكم.
(وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء).. ولعل هناك مقابلة جميلة بين كلمة (حَيْثُ يَشَاء) وبين البئر والسجن.. فيوسف أمضى لحظات من حياته في ذلك البئر الموحش، وسنوات من حياته في ذلك السجن الموحش.. والآن عكس ذلك تماما، من البئر والسجن، وإذا به يتبوأ منها حيث يشاء.
(وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ).. ومع ذلك، فإن القرآن ينفي هذا التوهم.. أي صحيح أن يوسف (ع) أصبح معززا، ومكرما، وعلى خزائن الأرض.. ولكن لا ينبغي التوهم أن هذا ليس من جزاء المۆمن في شيء، فالجزاء الأعظم إنما هو في الدار الآخرة.
إن الله عز وجل يريد أن يجمع شمل يوسف مع أخيه من أمه.. فانظروا إلى الترتيبات الإلهية الغريبة!.. (وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ).. لقد تعرف عليهم يوسف، إما بعلم بشري أو بتعريف إلهي.
(وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ).
أولا: عمد إلى التهديد، فهو على خزائن الأرض، ويتصرف كيفما يشاء: (فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ).
ثانيا: عندما أرادوا الذهاب (قَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا).. فقد جعل الثمن الذي دُفِع للعزيز أو للدولة في ضمن بضاعتهم، فجمعوا بين الثمن والمثمن.. وعندما رجعوا إلى بلادهم، رأوا بأن هذا الملك هدّدهم، وفي نفس الوقت عرّفهم بأنه حاكم كريم، فقد أكرمهم بإعطائهم البضاعة مع ثمنها.
وهذا أيضا من موجبات الإغراء، حيث أن هناك تهديدا، وهناك تطميعا: إذا جئتم لي بأخيكم من أبيكم، فأنتم لكم الكيل، وأنتم ستواجهون إنسانًا كريمًا مثلي.
فذهبوا إلى يعقوب، وهنا يعقوب أسرّ ما في نفسه: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).. استسلم يعقوب هذه المرة أيضا لطلب أبنائه، ولكنه لم ينس أخذ المواثيق منهم، ومع ذلك فوّض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، فقد جمع بين (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا) وبين قوله: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُۆْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ).. وهذه هي سياسة المۆمن، وهذا تدبير بشري، يحاول أن يأخذ المواثيق.. ولهذا فإننا مأمورون إذا أعطينا دَينا لإنسان مسلم أو غير مسلم، مۆمن أو غير مۆمن، أن نكتب ذلك الدَّين.
وعليه، فإن على المۆمن أن يحاول في حياته العملية، أن يُحكم أموره، وأن يضبط شۆونه، وأن يبرمج ويخطط للمستقبل.. فلا مانع من أن يكون المۆمن إنسانا دنيويا من حيث التخطيط.. (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).
فإذن، إن على المۆمن أن يتعلم من يعقوب هذين الدرسين: (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظً) و (لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُۆْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ).. فمثلا: تريد أن تسلم سيارتك لولدك، وتخاف من أن يسيء الاستفادة، فقل: (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظً)، فليسافر، ولكن اشترط عليه ألا يسيء التصرف في هذه الأموال.
إن نبي الله يحتاط، فقد أمرهم بعدم الدخول من باب واحد (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ).. هنا يقال: بأن يعقوب –عليه السلام- أراد دفع الحسد عنهم.. ومسألة الحسد ذكرها القرآن الكريم تصريحًا: (وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ).. فهنالك أمور لا نعلمها، وقد كان النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- يُعوِّذ ولديه الحسن والحسين.
وعليه، فإن هذه الآية أيضا فيها إشارة لهذه الناحية، وإلا أنه كان يخاف من إلقاء القبض عليهم، فإن هذا الاحتمال غير وارد.. لأن يوسف دعاهم للرجوع، وهم على تنسيق معهم، وذهبوا ليأخذوا الكيل، وليس هناك ما يوجب الخوف.. يبدو أن الذي يرجح من الآية هذا الخوف المعنوي بالنسبة لأولاده.
(وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ).. فيعقوب -وهو مستجاب الدعاء- لا يغني عنهم من الله من شيء، حيث يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).
وفي الآيات اللاحقة يُطلب من يعقوب أن يستغفر لهم ( قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) فيعقوب قبِل المهمة وقال: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).. أيضًا هنا درس بليغ، وهو أن النبي دعاۆه مستجاب، (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ).. فقد جعلوه وسيطا بينهم وبين الله عز وجل، كما نخاطب النبي المصطفى -صلى الله عليه وآله- عندما نعترف بظلم أنفسنا، ونطلب من النبي أن يستغفر لنا، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآۆُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا).
اعداد :سيد مرتضى محمدي
الشيطان في المرصاد
اليد الإلهية
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ