وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا
دروس من حياة يوسف (ع) -٦
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا}.. ومع ذلك شهد شاهد من أهلها، وهذا الشاهد من أهلها، قد قيل فيه أقوال، وقيل في روايات أهل البيت، أنه كان صبي في المهد، أراد الله عز وجل أن يجري المعجزة كما أجراها لعيسى عليه السلام، لئلا يبقى شك في أن زليخا هي المعتدية.. وعلامة الاعتداء {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ}.. فهنا انكشف الحق، وعلق تعليقا لم ينفه القرآن الكريم: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.. فهذه الفتنة هي من كيد النساء، إنه كيد عظيم، لماذا؟.. لأن الله عز وجل، ولأجل حكمة التناسل وزيادة النسل البشري، جعل في الإنسان هذه الغريزة.. وإلا فمن الذي يتبرع بنصف حياته، وبأمواله، وبسهره، وبقلبه، وبحبه، ويمنحها لزوجته، وخاصة عند الزفاف والعرس وما شابه ذلك؟!.. فالذي يدفعه دفعا حثيثا هذه الغرائز الملتهبة في الباطن.
فجعل الله عز وجل هذه الغريزة، لإدامة النسل البشري.. ويا لها من غريزة!.. حقيقة هي من أعلى صور التجاذب في الوجود، تجاذب الأنثى والذكر.. ولهذا فإن الروايات تصرّح بأنه ما خلا اثنان امرأة ورجل غير محرمين، إلا وكان الشيطان ثالثهما.. ذلك الذي يحاول أن يكمل هذه العملية.. فهناك تجاذب فطري غريزي، والشيطان لا يهدأ إلا أن يوصل بينهما بالحرام، الذي تقتضيه تلك الخلوة.
ثم أن هذه المرأة التي وقعت تحت طائلة العتاب والمعاتبة، أرادت أن تثبت بأنها معذورة في موقفها في إصرارها {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}.. إن الإنسان عندما ينتابه الذهول والاستغراب في شيء كالجمال البشري، هكذا يذهل إلى درجة تقطع المرأة يدها، وهي لا تشعر بهذا الجمال، الذي قلن عن ذلك الجمال {حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}.. فالذي يرى شيئا من جمال الله عز وجل، المنكشف في الصلاة، لما ترك الصلاة: (لو يعلم المصلّي ما يغشاه من جلال الله ما سرّه أن يرفع رأسه من سجوده).
إن البعض أراد أن يستنكر مقولة أن عليا عليه السلام، كان يعالج بعض جراحه: إخراجا لسهم، أو ما شابه ذلك في أثناء الصلاة.. فالبعض رآها من المبالغة، وإذا بأحدهم يُلهم هذا الجواب من القرآن الكريم.. فقال لذلك المعترض: إن النسوة رأين جمال يوسف -وهو جمال بشري- فقطعن أيديهن.. وأنتم تعلمون بأن النسوة ما رأين جمال باطن يوسف.. فباطن يوسف أجمل من ظاهره بكثير.. ذلك الباطن الذي تلقى برهان الرب، وذلك الباطن الذي يقول: يا رب السجن أحب إلي.. هذا الباطن هو الباطن الباقي.. ولكن النسوة رأين ظاهر الجمال، فقطعن أيديهن، فكيف إذا رأين باطن الجمال البشري؟.. فكيف إذا رأين باطن الجمال الإلهي؟.. فحق لعلي أن يصاب بتلك الغشية بين النخيل أو غير ذلك، عندما كان يناجي ربه.. وحق له أن لا يشعر بهذه الأمور.
فليطلب الإنسان من ربه في ساعة خلوة، وفي زيارة لبيته، وفي ساعة رقة، أن يريه شيئا من هذه العوالم، ليزهد في كل شيء ما سوى الله (ألا كل شيء ما عدا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل).
وكذلك من دروس هذه القصة: أن كرامة المۆمن عزيزة على الله عز وجل.. فصفاءيوسف، وأمانة يوسف، وبراءة يوسف؛ انكشفت من الباب.. استبقا الباب وإذا بالعزيز، وإذا بالقميص المثقوب من الخلف.. وإذا بالطفل الصغير ينادي، ويشهد بمن هي المجرمة.. وإذا بهذه المرأة في ملأ من النساء، تعلن بأنه كان لي الحق في أن أنجذب لهذا الجمال.. إن الله عز وجل حريص على كرامة عبده، ولهذا برّأه في الساعات الأولى، ففي الدقائق الأولى بعث الأسباب.. ولهذا إذا أحدنا أصيب في سمعته، أو اتُهم في شيء من أموره، صحيح عليه أن يبادر بشريا إلى دفع التهمة عن نفسه، ولكن ليفوّض الأمر إلى ذلك الذي يقول عن نفسه في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.. أنت اسع سعيا بشريا، فوكِّل محاميا، وتكلم.. ولكن الله عز وجل خير المحامين، وخير المدافعين، وخاصة إذا انقطعت بك الأسباب.. فالله عز وجل ناصر لمن لا ناصر له.
إن يوسف انكشف أمره، وانكشف جماله.. فهو لم يرَ الدماء وهي تسيل من أيدي النساء، ولعاً وشغفا بجماله.. فالإنسان العادي قد يعجب بنفسه، ما هذا الجمال الذي سلب العقول؟..
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}.. التفتوا إلى كلمة {أَحَبُّ}، لو قال: ربي السجن أنفع لي، أو السجن أحفظ لديني، أو السجن أكثر مصلحة لي.. لما كان ليوسف تلك الدرجة العليا، التي تجعل رب العالمين يخصص سورة -تقريبا- لقصة هذا النبي العظيم.. وهنا بيت القصيد أيضا، أن تتحول المعاني الإلهية والعرفانية إلى معان محبوبة، لا إلى عناوين مصالح، ولا إلى عناوين فيها رجحان أبدا.. فصلاة الليل تطابق مزاج المۆمن، لأنه إذا لم يقم الليل، فإن نهاره سيكون نهارا تعيسا، لأنه فقد الخلوة مع حبيبه (اللهم!.. هدأت الأصوات، وسكنت الحركات، وخلا كلّ حبيبٍ بحبيبه).. فإذا فاته الموعد، فاته قطار اللقاء مع الرب الودود.. فعندها يعيش الأمرّين تلك الليلة، نعم، هكذا تتجافي جنوبهم عن المضاجع، فأجسادهم تجفو الفراش.. ما قيمة الفراش ومَن على الفراش، في مقابل ذلك اللقاء الجميل مع رب العالمين؟..
ويبقى يوسف وجلا، خائفا.. صحيح هو على مستوى من العصمة، وقد رأى برهان الرب، ونجح في الامتحان، حينما غلّقت الأبواب.. ولكنه مع ذلك يبقى خائفا وجلا، فيقول: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}.. فهو دائما يعيش حالة التذلل، وحالة الخوف.. فالمۆمن هذه حالته، وشعاره شعار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولعله كان يكثر من الدعاء: (اللهم!.. لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا.. اللهم!.. لا تردنا إلى سوء استنقذتنا منه أبدا.. اللهم!.. لا تسلب منا صالح ما أعطيتنا أبدا).. إذا أُعجب الإنسان بنفسه، ورأى أن ملكاته لا تفيده، فإن هذا أول الامتحان.. إن يونس (ع) تركه الله عز وجل فترة من الزمن، وإذا مصيره في بطن الحوت.. إن يوسف (ع) يعيش هذه الحالة من التربص والخيفة {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
اعداد :سيد مرتضى محمدي
الشيطان في المرصاد
اليد الإلهية
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ