• عدد المراجعات :
  • 5054
  • 9/18/2012
  • تاريخ :

إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ

مسلسل يوسف

دروس من حياة يوسف (ع) - ٤

{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآۆُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}.. أي أنتم تعبدون الأوهام، فقد جعلتم للماء إلها، وللفلك إلها، وللشمس إلها، إنها أسماء مخترعة لا مسميات.. فأنتم تركضون وراء السراب، وتركتم الرب الواحد القهار.. ونحن في حياتنا اليوم كالكفار والمشركين، نعبد -بمعنى نطيع- عناوين وهمية: الفوقية، وعنوان الرئاسة، وعنوان السيطرة، وعنوان الغلبة، وعنوان التحكم في المنزل وخارج المنزل، فإننا نعبد هذه الأمور.. فهذه الأيام ألا تقام الحروب والقتال لأجل أن يكون الإنسان رئيسا، والرئاسة عنوان اعتباري في المجتمع؟.. فيوسف عليه السلام يقول: أنتم أسراء الأسماء، وأنا عبد للمسمى الواحد، ذلك المسمى الواحد القهار.

 {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.. هذه الواحدية، وهذا التوحيد؛ ليس في عالم الذهن فقط، وليس في عالم الحب القلبي فقط.. وإنما في عالم الممارسة في الحياة {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}.. إن الأنبياء منذآدم، إلى الخاتم، إلى القائم صلوات الله عليهم، كلهم يلهجون بذكر الله والتوحيد.. فالبركات كل البركات في التوحيد: فروع الدين مستقاة من التوحيد، وفروع الدين من آثار التوحيد، والأخلاق في التعامل مأخوذ من التوحيد.. فالذي لا يرى في الوجود مۆثرا إلا الله عز وجل، من الطبيعي أن يۆمن بالرسالات، وبالإمامة، وبالمعاد، وبفروع الدين، وبالخلق الإسلامي القويم.. فإن كل ذلك فرع التوحيد؛ فأول التوحيد معرفة الجبار، وآخر التوحيد تفويض الأمر إليه.

ثم في ختام هذا التعبير أيضا، لا مانع من أن يسعى المۆمن لتحسين وضعه.. أولا زكى نفسه، ثم عرف نفسه، ودعا إلى التوحيد، وبلّغ الدين، ثم ذكر تعبير المنام، ثم استفاد من الفرصة.. فليس من الحرام، أن يخلّص الإنسان نفسه من ضيق الحياة الدنيا؛ صحيح أن الرب هو المدبر، وهو المۆثر.. ولكن له وسائط، فيوسف وهو النبي الصديق، ذلك الملهم، ليس عنده مانع أبدا أن يجعل هذا الإنسان وسيلة خير، لأن ينقل تظلمه وشكواه، وما وقع عليه من الظلم عند الملك قائلا: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}.. هناك قول آخر: بأن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه، ولكن هذا لا ينسجم مع المخلَص.. فيوسف -بشهادة القرآن- أُعطي وسام المخلَصين، فكيف ينسى ذكر الله عز وجل، ويتخذ من ذلك العزيز المنجي في قبال الله سبحانه وتعالى؟!..

{فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}.. إن الذي خرج من السجن ذهب عند أهله، واشتغل معهم، ونسي صاحب الحق، هذا الصديق الودود، والنبي الذي كان معهم في السجن، فالشيطان أنساهم ذلك.. وهنا أيضا وقفة مۆثرة في أن الشيطان يحارب المۆمن حتى في هذه الزاوية.. إذا أريد أن يصل إليك خير من أحد، ويرى الشيطان بأن هذا الخير من دواعي قربك إلى الله عز وجل، قد يتدخل في نفس ذلك الإنسان، وينسيه ذكرك.. لئلا يصل إليك خير من الخيرات.. فالشيطان سلطانه قد يتجاوز مسألة الوسوسة إلى مثل هذه التصرفات.

{فلبث في السجن بضع سنين}.. البضع يقال لما دون العشرة، فيوسف (ع) بقي في السجن هذه المدة.. فمن هوان الدنيا على الله عز وجل، أن يوسف صاحب هذا الجمال البشري، وذلك الجمال الروحي، والذي أوتي من العلم الغيبي هذه العفة، وهذه النزاهة، أن يعيش في زوايا السجون.. وذلك العزيز الظالم، الذي جعل هذا الإنسان البريء في غياهب السجون، يسرح ويمرح على وفق مراده!.. ولهذا فإن البعض عندما يصل إلى ذكر الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه يشبهه بيوسف.. هناك شبه بين يوسف وبين إمامنا المغيب: فهو في هذه الدنيا، وبين ظهرانينا.. ولكنه مسجون في سجن الغيبة، ولم يۆذن له بإظهار أمره، فيرى الأمور بيد الظالمين والمنحرفين عن طاعة الله عز وجل، وينتظر فرجه في كل يوم.. ولكن الله عز وجل مسبب الأسباب.

 ولكن الله عز وجل سلط على الملك مناما مرعبا مقلقا، {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُۆْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّۆْيَا تَعْبُرُونَ}.. إنها حركة جيدة، وحركة علمية نزيهة.. فالبعض يريد أن يتودد إلى السلطان، بدعوى علم ما لا يعلم.. ولكن هۆلاء {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}.. شيء جيد أن يعترف الإنسان بجهله، ولو كان في ادعاء العلم بعض المزايا والتزلف من السلاطين مثلا.

 وهنا تذكر ذلك السجين السابق صاحبه {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}.. تذكر يوسف هذا الذي كان يعبّر الرۆى في السجن، فهو الشخص المناسب لهذه الحركة، فأرسلوا وراء يوسف {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}.. ويا للعجب!.. عندما خرج من السجن نسي هذا الصديق، والآن عندما احتاجه أصبح صدّيقا؟.. ولكن يوسف (ع) لم يكتم علمه، بل بيََّنه {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.

ولكن قبل ذلك عندما جاءه الرسول -يبدو والله العالم من سياق الآيات- وقبل أن يۆول طالب بحقه: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}.. أي اسألهم قبل أن أفسّر الرۆيا، واثبتوا براءتي، وأعطوني حقي هذا الذي سُلب مني.

وبالفعل {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}.. وبعد سنوات -يريد الله عز وجل أن يظهر براءة وليه-  فـ{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.. الآن ظهر الحق.

مسلسل يوسف

فخرج يوسف (ع) من السجن، وأُعفي عنه، واتخذ موقعا من البلاط، ومن قلب الملك.. وظهرت البراءة، وتبين الحق.. ومع ذلك تراه يتواضع لله عز وجل، فيقول: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.. فهناك يقول: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}.. وهنا مرة أخرى وثالثة يقول: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.. إنها حالة التذلل الدائم مع رب العالمين.

{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}.. هنا لفتة جميلة يقال هنا: أصبُ إليهن، أي أعملُ أعمال الصبيان، فالذي يتوجه إلى الشهوات، هو صبي في نفسه، وصبي في عقله، حتى لو بلغ من العمر ما بلغ.. وهو ما نلاحظه من إقبال بعض كبار السن على شهوات الدنيا.. يقول يوسف: هذه الحركة الغريزية، هي حركة صبيانية، وحركة لا تنم عن بلوغ باطني.. فهي لفتة جميلة في هذا المجال، حيث ربط الحركة الغرائزية بالحركات الصبيانية.. وقال الملك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}.. فالآن بدأت مرحلة الفرج لهذا النبي العظيم.

اعداد :سيد مرتضى محمدي


الشيطان في المرصاد

اليد الإلهية

رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)