• عدد المراجعات :
  • 4811
  • 9/9/2012
  • تاريخ :

توصيف القرآن للفساد الإقتصادي-فرعون 

فساد الاقتصادي

إهتمّ القرآن الكريم بمعالجة ظاهرة الفساد عموماً والفساد الإقتصادي بشكل خاص، لأنّه الوجه الآخر للفساد في الحكم والسياسة، ولأنّه السبب والهدف لذلك الإنحراف غالباً، فإستضعاف الناس إقتصادياً هو من أوجه الفساد في الحكم، كما هو وسيلة لإضعاف قوّة الشعب والسيطرة عليه، وهو في نفس الوقت هدف للحاكمين الظالمين الجشعين والفاسدين الذين ينهبون ثروات الشعب ليترفوا ويسرفوا فيها إشباعاً لشهواتهم ونزواتهم.

ويعرض القرآن لنا نماذج صارخة للفساد في المال، كما هو الفساد في الحكم والسلوك والأخلاق، سنتعرّض لبعضٍ منها بالدراسة والتحليل:

فرعون: الطاغية المستبد، والمستكبر المتعجرف، والفاسد المُسرف، كان حقَاً مثالاً للشخص الذي اجتمعت في حاله كل خصائص السُّوء والإنحراف عن العدل، واتباع الأهواء، في الفكر والأعمال، فاستحقّ الوقوف لدراسة شخصيّته، كما صوّرها لنا القرآن، لنعرف من خلاله صفات الفاسدين ومظاهر الفساد، ولتكون لنا المعايير والموازين التي نُميِّز بها بين السلوك الصالح القويم، والسلوك الفاسد المريض، وليكون فرعون: تذكرة للحاكمين وللشعوب على السواء، فيتجنّب مسيرته الجميع ويبتعد عن صفاته أُولو الألباب، فكيف كان سلوك فرعون وما هي تصرّفاته وآفاته؟

الأوّل: إنّه كان من المُسرفين، يعيش حالة الترف والبذخ على حساب أموال الناس، وقد بنى هو وأعوانهُ قصوراً وأهراماً وتماثيل وأصناماً على حساب شعبه المحروم، ولم يعش مع معاناتهم ولا شاركهم همومهم.

قال تعالى: (... وإنّ فِرعَونَ لَعالٍ في الأرضِ وإنّه لَمِنَ المُسرفين) (يونس/ 83).

و"الإسراف" شاخص فارق للمفسدين عن غيرهم، قال تعالى: (... وَكُلُوا واشرَبوا ولا تُسرِفوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسرفين) (الأعراف/ 31).

ثانياً: إنّه مع إسرافه في المال وتبذيره للثروات، أذاق شعبه الويلات، فلم يستفد من ذلك المال لإسعاد شعبه، بل إستعمله لإستضعافهم وإستغلالهم فعاشوا فقراء محرومين ومستضعفين مستهلكين – يقتل الأبناء ويبقي النِّساء ليُسخِّرهنّ للخدمة والعمل – وقد مات الآلاف منهم في بناء أهراماته، فكلّما زادت ثروات البلد زاد نهب الحاكم الفاسد في حين يبقى الناس على تلك الحال السيِّئة إن لم يزدادوا سوءاً.

قال تعالى: (إنّ فِرعَونَ عَلا في الأرض وجَعَلَ أهلَها شِيَعاً يَستَضعِفُ طائفةً منهم يُذَبِّحُ أبناءَهُم ويَستَحيي نِساءَهُم إنّهُ كانَ من المُفسدين) (القصص/ 4).

ثالثاً: إنّ هذه السلطة وتلك الأملاك والأموال شكّلت حجاباً على عقله وفكره فاغترّ بنفسه ولم يعد يرى الحق، وظنّ أنّ هذه القوّة تعطيه صفة الألوهية وتضفي على معتقداته وآرائه المشروعية، وأنّ الطرف الآخر، موسى، بفقره ووضعه الإجتماعي العادي، يفتقد الحقيقة ولا يحمل الرسالة، وكأنّ الرأي يدور مدار السلطة والمال والجاه.. لا مدار الحقّ والصدق والعدل، وهكذا اتّبعه قومه، فهم أعمتهم المظاهر، رغم سوء أوضاعهم، وأطاعوه رغم إستخفافه بهم وإستضعافه لهم، لأنّهم ممّن يعتقد أنّ: الحق مع الحكومة، و(الناس على دين ملوكهم) كما قيل.

أُنظر إليه كيف يتصرّف: (ونادى فِرعَونُ في قَومِهِ قالَ يا قومِ أليسَ لي مُلكُ مِصرَ وهذه الأنهارُ تجري من تَحتي أفلا تُبصِرون * أمْ أنا خَيرٌ من هذا الذي هوَ مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِين * فلولا ألقِي عليهِ أسوِرَةٌ من ذهبٍ أو جاءَ معهُ الملائكةُ مُقتَرنين * فاستَخَفَّ قَومَهُ فأطاعوهُ إنّهم كانوا قَوماً فاسقين * فلمّا آسَفُونا انتَقَمنا مِنهُم فأغرَقناهُم أجمعين * فجَعَلناهُم سَلَفاً ومَثَلاً للآخرين) (الزُّخرف/ 51-56).

رابعاً: إنّ فرعون إستخدم هذه القوة وهذا المال لإضلال الناس، والصدّ عن سبيل الله، كما يستخدم الكثير من الفاسدين الأموال في التضليل الإعلامي وشراء الذمم الرخيصة والرشوة والوشاية.. ومن ثمّ إستخدام القوة في قمع المعارضين.

فلم تكن السلطة والقوّة والمال عند فرعون وسيلة تقدّم وإزدهار وتنمية وإعمار، بل كانت وسيلة قمع وإستبداد وإستضعاف، نقرأ في القرآن: (وقال مُوسى ربّنا إنّك آتَيتَ فِرعَونَ ومَلأهُ زينَةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا لِيُضِلّوا عن سَبيلكَ ربّنا اطمِس على أموالهم واشدُد على قُلُوبهم فلا يۆمنوا حتى يَرَوا العذاب الأليم * قال قد أُجيبَت دَعوَتُكُما فاستَقِيما ولا تَتَّبِِعانِ سبيلَ الذين لا يَعلَمون) (يونس/ 88-89).

وهكذا كانت الأموال وزينة السلطان.. حاجزاً عن معرفة الحق وإتباعه.. فجعل فرعون ملأه من الجاهلين: الذين لا يعلمون.

خامساً: إنّ الفساد والإنحراف والطغيان يۆدي إلى ذهاب البركة ونقص الثروات، لأنّ الإنسان هو الذي يُعمِّر البلاد ويُطوِّر الزراعة ويُنمِّي الإقتصاد، وإذا ما فقد الإنسان في أي مجتمع عزّته وكرامته وسلبت حقوقه وإمتيازاته، فإنّه لا يمكن لهذا الإنسان المسحوق أن يصنع حضارة أو يشارك في نهضة أو تنمية، لأنّه يكون قد فقد في وجوده الروح الخلاّقة المُبدعة وماتت فيه الحوافز الدافعة والمُحرِّكة.

وبالعدل يدوم الحكم وبالإنصاف تزيد البركة، والإنفاق يزيد الرِّزق، وحيثما يكون الظلم والكفر والإسراف والإستضعاف، فإنّ الله يسلب من ذلك المجتمع السعادة ويبتليه بشتّى الإبتلاءات والمحن، وهكذا كان حال مجتمع فرعون، يقول تعالى: (ولقد أخَذنا آلَ فِرعَونَ بالسِّنينَ ونَقصٍ من الثَّمَراتِ لعلّهم يَذَّكَّرون... فأرسَلنا عليهمُ الطوفانَ والجَرَادَ والقُمَّلَ والضَّفادِعَ والدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فاستكَبَروا وكانوا قَوماً مُجرمين) (الأعراف/ 130-133).

 

المصدر: كتاب نظرية الإصلاح من القرآن الكريم


ظهر الفساد

مواجهة الفساد وتوقيف مصانعه

معاقل الفساد  - أدوات الفساد ومفرداته

معاقل الفساد - النفس الإنسانيّة والأنانيّة

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)