مشاهد من هدم البقيع
العيون تدمع ، والقلوب تخشع ، والفۆاد يتفطر ، والنيران تتأجج في القلوب كالبراكين الثائرة..
زار المستر روتر مقبرة البقيع عام 1925 م بعد تهديمها بأشهر قليلة فكتب :
"وحينما دخلت إلى البقيع وجدت منظره كأنه منظر بلدة قد خربت عن آخرها ، فلم يكن في أنحاء المقبرة كلها ما يمكن أن يرى أو يشاهد ، سوى أحجار مبعثرة ، وأكوام صغيرة من التراب لا حدود لها ، وقطع من الخشب والحديد مع كتل كبيرة من الأحجار والآجر والإسمنت المنكسر هنا وهناك.
قد كان ذلك أشبه بالبقايا المبعثرة لبلدة أصابها الزلزال فخربها كلها ، ووجدت بجنب السور الغربي للمقبرة أكواما كبيرة من ألواح الخشب القديمة ، والكتل الحجرية وقضبان الحديد ، وكان بعض ما جمع من المواد الإنشائية المبعثرة ، وكوم هناك بانتظام ، وقد أزيلت الأنقاض من بعض الممرات الضيقة حتى يتمكن الزائرون أن يمروا منها ليصلوا إلى مختلف أنحاء المقبرة.
فيما عدا ذلك لم يكن هناك ما يدل على شيء من الانتظام ، فقد كان كل شيء عبارة عن وعورة تتخللها مواد الأبنية المهدمة ، وشواهد القبور المبعثرة ، ولم يحدث هذا بفعل الزمن وعوارض الطبيعة بل صنعته يد الإنسان عن تقصد وعمد. فقد هدمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت تدل على قبور آل البيت النبوي في السابق ، وقبر الإمام مالك وغيرهم ، وأصاب القبور الأخرى نفس المصير ، فسحقت وهشمت حتى الأقفاص المصنوعة من أعواد الجريد التي كانت تغطي قبور الفقراء من الناس قد عزلت جانبا وأحرقت.
وحينما توغلنا داخل المقبرة لمشاهدة الأكوام ، التي تدل في يومنا هذا على قبور المسلمين الأوائل ، الذين صنعوا التاريخ الحافل ، سمعت دليلي عامدا يكرر بهمس ويقول : أستغفر الله ، أستغفر الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله.. وكانت القلة ممن بقي من سدنة القبور التي بقيت معالمها شاخصة للعيان ، يقفون أو يجلسون بجنبها بأوجه كئيبة ومن دون أن تبدر منهم أية حركة ، فلم يطلبوا الصدقة ولم يتكلموا بشيء سوى بعض الكلمات الخافتة ، برغم عدم وجود أحد من الوهابيين على مقربة منهم غير اثنين من عبيد ابن سبهان في الباب...
لقد سرنا في ممر ضيق ، وكنا نتجول بين الأنقاض والأزبال المبعثرة هنا وهناك ، ثم توجهنا إلى جهة من المقبرة ، وفيما كنا نخطو بخطوات بطيئة التقينا بجماعات من الهنود التي كانت راجعة من زيارة هذه المقبرة ، وكان الذي يتقدم هذه الجماعات من الهنود رجلا مسنا ذا لحية طويلة وقد خط الشيب سوادها. كان وهو يمشي منتصب الرأس لا يحرك عينيه يمنة ولا يسرة ، ينظر إلى الأمام على الدوام ، والدموع تنحدر من عينيه بتيار مستمر...".
.. كانوا يبكون أصحاب القبور والأضرحة ، لأننا لا نبكي على الحجارة والحديد والأخشاب.. بل نبكي على تلك الأجساد الطاهرة والأرواح الزاكية.. ألا يفجع من يزورهم وهو قاصد من آلاف الأميال أن يرى القباب مهدمة ، والأضرحة مهشمة ، والقبور منتهكة ، والحرمات لأصحاب الحرمة العالية معتدى عليها؟
بلى والله إن المۆمن حقا تسيل دموعه إذا ذكر عنده الحبيب المصطفى (ص) شوقا إليه ، أو فاطمة الزهراء على ظلامتها وضلعها المكسور ، و الإمام الحسن المجتبى المسموم وظلامته ، و الإمام السجاد المهضوم وعبادته ، و الإمام الباقر وعلمه ، و الإمام الصادق وحديثه النوراني (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
فترى المسلمين كافة يقصدون المدينة المنورة ليستنيروا بأنوار الأئمة العظام (ع) ويتمرغون بتراب القبور ، فيمنعونهم من الزيارة والبكاء والوصول حتى إلى القبر الشريف في هذه الأيام!
العيون تدمع ، والقلوب تخشع ، والفۆاد يتفطر ، والنيران تتأجج في القلوب كالبراكين الثائرة..
المصدر : كتاب (فاجعة البقيع) ، تأليف الشيخ جلال معاش ، ص 91-96.