الإمام المهدي بين العقل والنقل(1)
الإسلام دين العقل، وعقائده قائمة على النظر والتفكير، وهو يرفض الأساطير والخرافات، وينهى الإنسان عن الأخذ بشيء قبل التأكد منه {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أو أن يقلد الآخرين ويتبعهم في آرائهم وأفكارهم دون حجة وبرهان.
ومن هنا قال أكثر علماء الإسلام بوجوب الاجتهاد والنظر في أمور المعتقدات، ولا يصح فيها التقليد والاتباع، وإنما يصح التقليد في المسائل الفقهية الفرعية، لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد والاستنباط، أما العقائد فلا تقليد فيها.
وآيات القرآن الكريم تؤكد على مرجعية العقل للإنسان، ففي عشرات الآيات ورد قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} و {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} و {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وتبلغ الآيات التي وردت فيها مشتقات هذا اللفظ حوالي خمسون آية.
أما الآيات التي تتحدث عن التفكّر وتأمر به، وتحث عليه، فهي حوالي ثمانية عشر آية، كقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}، {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
إضافة إلى ما ورد في الآيات الكريمة حول التفقه والنظر والعلم، وغير ذلك، مما يظهر بجلاء ووضوح مرجعية العقل ومحوريته في الإسلام، ولذا فلا مجال في المعتقدات الإسلامية للخرافات والأساطير، ولا يتبنى المسلم أي قضية فكرية إلا بعد التعقّل والبرهنة والاستدلال.
نوعان من المعتقدات:
الأول: معتقدات يعتمد فيها على العقل بشكل مباشر، ولا شأن للنقل في تحصيل الإيمان بها، كأصول العقيدة، مثل الإيمان بوجود اللَّه تعالى، وبالنبوة، حيث تقود الإنسان إلى ذلك فطرته النقية، وعقله السليم، وليس النصوص والأحاديث والآيات.
الثاني: معتقدات يعتمد فيها على النقل ولكن ضمن مرجعية العقل، وذلك على أساس الضوابط التالية:
- أن تكون الجهة التي صدر عنها النقل مورد اعتماد العقل واطمئنانه، وهي الجهة المعصومة، التي لا يشك العقل في صدقها ونزاهتها، كالقرآن الكريم والنبي المرسل، والإمام المعصوم.
- أن يثبت النقل عن تلك الجهة بطريق عقلائي شرعي، وأن تكون الدلالة فيه على المراد صحيحة ظاهرة عند العقلاء.
- أن لا تكون مخالفة للأحكام العقلية القطعية، كاجتماع النقيضين، وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين، وقبح الظلم وحسن العدل.
وعلى ضوء ما سبق فإننا كمسلمين نؤمن ببعض المعتقدات التي وردت من مصدر شرعي معتمد، وبسند صحيح ثابت، مادامت لا تخالف الضرورات العقلية، والإيمان بها ضمن هذه الضوابط ليس خارج دائرة العقل، بل في ظل مرجعيته وهديه.
الظواهر الإعجازية:
نعم هناك بعض القضايا الواردة دينياً، قد يبدو لأول وهلة، أن الإيمان بها يخالف العقل، وأنها من سنخ الخرافات والأساطير، وذلك لأنها غير مألوفة الحدوث والحصول، وتعتبر خارقة للمعادلات والقوانين العادية المعروفة.
إلا أننا يجب أن ندقّق ونفّرق بين ما يكون مخالفاً للعادة والمألوف، وما يناقض العقل ويصادمه.
إن كثيراً من التطورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة، لو حُدِّث بها إنسان القرن الماضي أو ما سبقه من قرون، لرفض التصديق بها، أو احتمال وجودها، إذا كان ينظر إليها من خلال ما اعتاده وألفه، أما إذا قدِّر له أن ينظر إليها من خلال الإمكان العقلي والمنطقي، فسوف لن يجد مانعاً من التصديق بها.
والتطور العلمي في حياة الإنسان المعاصر، يساعدنا كثيراً، في فهم العديد من الظواهر الخارقة، التي يحدثنا الدين عنها، ونذكر الآن منها بعض النماذج، والتي يؤمن بها المسلمون لثبوتها دينياً، في الوقت الذي لا تصادم حكم العقل.
برداً وسلاماً على إبراهيم:
انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة، إلى الجسم الأقل حرارة، حتى يتساويان، قانون طبيعي معروف، لذا فإن أي جسم يلقى في النار يحترق بلهيبها، لكن نبي اللَّه إبراهيم الخليل (عليه السلام) وجسمه كسائر أجسام البشر، ألقاه قومه في تلك النار المضطرمة التي أوقدوها لإحراقه، فلم يصب بأي أذى، وخرج منها مبتسماً يقول تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ & قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ & وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ}(1).
إن المسلم يؤمن بذلك دون أي شك وتردد مادامت القصة مذكورة في القرآن، وليس مقاومة الاحتراق أمراً ممتنعاً ومستحيلاً من الناحية العقلية، ونحن نرى الآن كيف تطورت وسائل تمنع الأجسام ضمن شروط معينة من الاحتراق.
ولد من دون أب:
القانون الطبيعي المألوف، أن إنجاب الإنسان يتم عبر تلاقي الذكر والأنثى معاً وليس مألوفاً أن يحصل التوالد عبر أحدهما فقط، لكن القرآن الكريم يخبرنا عن ولادة نبي اللَّه عيسى بن مريم من دون أب، ولقد استغربت حتى أمه مريم حينما بشرتها الملائكة بذلك، فهي ما مسّها رجل ولم تتزوج فكيف يمكن أن تلد؟
يقول تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(2).
وما دام القرآن قد أخبر بهذا فنحن نؤمن به وهو أمر غير طبيعي عادة، وغير مألوف، ولكنه غير مستحيل عقلاً، وما تجارب الاستنساخ التي حصلت في هذه السنوات الأخيرة إلاّ تأكيد لهذه الإمكانية.
الإسراء والمعراج:
ويعتقد المسلمون بالإسراء والمعراج، حيث أسرى اللَّه بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) من مكة المكرمة، إلى المسجد الأقصى في فلسطين، ثم عرج به إلى السماوات العلا، في رحلة إعجازية في عمق الفضاء والزمن، وعاد إلى فراشه في نفس الليلة قبيل طلوع الفجر.
إن حصول ذلك وخاصة في ذلك العصر، أمر مستنكر، يوجب الرفض والتكذيب، لكن الخبر الصادق الذي جاء به القرآن يفرض علينا القبول والتصديق، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(3).
صحيح أنه أمر غريب ومخالف للعادة والمألوف، لكن العقل لا يحكم باستحالته وامتناعه، وتطور وسائل المواصلات الجوية، وارتياد الإنسان للفضاء، وغزوه للكواكب الأخرى، جعل الصورة أوضح أمام إنسان اليوم.
حسن موسى الصفار
المصادر:
1- سورة الانبياء الآية 68-70.
2- سورة آل عمران الآية47.
3- سورة الاسراء الآية1.
قيادة العلماء الاُمناء على حلاله وحرامه