اخلاقيات الانتصار
أن لا تصاب الأمة بالغرور السلبي والكبرياء الزائف، فإنّ الكبرياء والغرور من الآفات الأخلاقية العظيمة، نعم ينبغي ـ على مستوى الحرب النفسية ـ أن توحي للعدو بكبريائها، لكن لا ينبغي أن يتحوّل ذلك إلى مرض حقيقي في الأمّة، ومن أبرز مظاهر هذا الغرور أنّه بعد النصر يخرج الإنسان عن مراعاة القوانين الشرعية والأعراف الدولية واللياقات الدبلوماسية والآداب الإنسانية فيتعامل بصلافة من موقع القوّة بعد أن كان يتعامل بأدب من موقع الضعف، فالقوّة ـ في الثقافة الدينية ـ عون على إقامة العدل وإحقاق الحقّ، وليست مساعداً على إحلال الظلم والتعدّي على الحقوق، قال تعالى: [ولا تمش في الأرض مرحاً إنّك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً] (الإسراء: 37).
ولدينا في التجربة النبوية أنموذج هام أعطى القرآن الكريم فيه درساً للمسلمين، ألا وهو معركة حنين، حينما اغترّ المسلمون بأنفسهم وقوّتهم وكثرتهم ولم يأخذوا بأسباب النصر ولم يتواضعوا لله، ولمن ينبغي التواضع له، فاهتزّت أوضاعهم، قال سبحانه:[لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم ولّيتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين] (التوبة: 25 ـ 26)؛ فهذه الآيات تدلّنا على أنّه إذا حقّق المسلمون الانتصارات تلو الانتصارات من قبل، فيجب عليهم أن لا يصيبهم الغرور بأنّنا لن نهزم بعد ذلك، كما حصل مع بعض المسلمين في حنين، حينما رأى عديد المسلمين، بل المفترض دوماً إبداء التواضع الداخلي والتحسّب لكلّ الاحتمالات، كما أنّ هذا هو مضمون الحكمة التي تقول: لا تستخفّ بعدوّك ولو كان ضعيفاً، فالانتصارات يجب أن يهيء لها، لا أن يكتفى لها بالغرور والعزّة دون استعداد حقيقي مسبق، أو بتربية الناس على هذا الغرور، ولعلّ هذا روح كلام الإمام علي (عليه السلام) : (لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية والغنى؛ بينا تراه معافىً إذ سقم، وبينا تراه غنيّاً إذ افتقر) (نهج البلاغة 4: 100).
والأهم من هذا كلّه، أنّ الآية تركّز على ربط نصر حنين بالله تعالى وبأنّه أرسل جنوداً لم تروها، وهذا معناه أنّه يفترض بالأمة ـ حتى في اللحظات التي ترى فيها من الناحية المادية تحقق النصر أو أنّها على شُرُف ذلك ـ أن لا تجزم به ولا تعلّقه على قوّتها وطاقاتها، بل تربطه أيضاً ـ قبل كلّ شيء ـ بالله تعالى، فتحقّق النصر من قبل لا يعني تحققه بعد ذلك ولو كنّا أقوياء، إلا إذا علّقناه على المشيئة الإلهية تعليقاً قلبيّاً ولسانياً، قال تعالى: [ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربّك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربّي لأقرب من هذا رشداً] (الكهف: 23 ـ 24).
إعادة دراسة الأمّة لأسباب النصر؛ كي ترى ما هي النقاط الضرورية اللازمة فيه، أي ما هي نقاط القوّة التي حققت هذا النصر لكي تحافظ عليها؟ كما أنّ أيّ حرب ـ حتى لو حصل فيها نصرٌ ـ تقع معها بعض الأخطاء؛ فيجب دراسة هذه الأخطاء لتجنّبها في المستقبل.
من هنا، وفي موضوعي: النصر والهزيمة معاً، يجب على الأمة أن تنقل خبراتها للأجيال اللاحقة، بكتابتها أو بأي سبيل آخر ، وتنقل تجاربها في هذه الحروب، فإنّ هذه المراكمة من الخبرات يجب الحفاظ عليها في الأمة للمستقبل؛ لهذا يفترض تأسيس مراكز أبحاث ودراسات عملها تدوين تاريخ الحروب وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عنها؛ لكي تستفيد من ذلك الأجيال اللاحقة، ويُذكر فيها ما للمسلمين وما عليهم بكل أمانة دون تعمية للتاريخ أو تزييف للحقائق أو تشويه للصورة أو تلميع للمفاسد أو محاولة هذا الفريق أو ذاك أن يحتكر النصر لنفسه ويرجع الفضل فيه له وحده أو.. (حول ضرورة كتابة التاريخ المعاصر بشفافية، انظر: حيدر حب الله، مسألة المنهج في الفكر الديني: 380 ـ 387).
أسرار السقوط الحضاري للعالم الإسلامي
أبعاد القيادة الإسلامية
أُسس الصلاح