الـرفق آفاقه وفلسفته
1 ـ إرفق يرفق بك :
لما كان الله جل شأنه رفيق ويحب الرفق فلا شك أنّه سبحانه سيقابل رفق الاِنسان بأخيه الاِنسان ، ورفق الاِنسان بالحيوان بالرفق واللطف والسماحة والتجاوز . فيما يخص تعامل الخالق مع مخلوقه في الدنيا أو ما يعود لمحاسبته في الاخرى قال تعالى : ( هَل جَزَاءُ الاِحسَانِ إلاّ الاِحسَانُ:الرحمن60).
فعن زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام إنه قال : « من وصايا الخضر لموسى عليه السلام ،... ما رفق أحد في الدنيا إلاّ رفق الله عزَّ وجل به يوم القيمة»(1).
فمن أراد أن يرفق الله به فما عليه إلاّ ان يرفق بغيره .
2 ـ قد يكون الرفق خرقاً :
إذا ادلهمت النفوس بآثامها واُطفيء مصباح فطرتها وعمت بصيرتها عن معرفة الصواب وضلت عن درب رشدها وسبيل تكاملها لما تجمع من صدأ الذنوب على أفئدتها ( كَلا بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ :المطففين14). فعند ذلك لا تستذوق تلك النفوس الفاسقة المنحرفة حلاوة الرفق الذي يستعمل معها ويستخدم من أجل خيرها وصلاحها ، فهي تقابل الرفق واللين واللطف والرحمة والسماحة والتجاوز أو العطف والرأفة بما يضاد ذلك من الخرق والشدة والغلظة والقسوة وتتبع العثرات والمحاسبة على الزلات والنقمة واللؤم .
والحكمة تقتضي التعامل مع هذه النوعية من النفوس الخائبة الخاسرة بما يناسب ذلك مما يؤدي إلى تأديب نزقها وتعديل مسارها ، وتقويم أعوجاجها فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : « وإذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً » (2) .
وعليه فان من لا يصلحه الرفق أصلحته الشدّة ، ومن لم يتقوّم بالمسامحة تَقوّم بالمحاسبة ، ومن إذا ما رفقت به اندفع في غيّه وعناده وغروره وغطرسته ولم ينتفع بما تقدّمه له من علاج ناجح ودواء نافع فما عليك إلاّ تركه في مستنقع مرضه الاخلاقي وسقمه السلوكي وداءه الذي هو فيه حتى يتحول هذا الداء إلى موقظ له من غفلته ، فيصحوا بعد مصارعته طويلاً ومعاناته كثيراً بما سيجرّه عليه من بلاء وخيم حتى يتحسس ويدرك ما ينفعه مما يضرّه ، فإن استقام فهو المطلوب وإلاّ فدع ما به يقضي عليه وهو حسبه .
وفي الشعر الحكمي :
ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا * مضرٌّ ، كوضع السيف في موضع الندى (3)
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً : « من لم يصلحه حسن المداراة يصلحه حُسن المكافأة » (4).
ومن كتاب لاَمير المؤمنين عليه السلام إلى بعض عماله « واخلط الشدة بضغث من اللين وارفق ما كان الرفق أرفق » (5).
وفي غرر الحكم : « اخلط الشدّة برفق ، وارفق ما كان الرفق أرفق » .
فالمحمود عند اعتدال الاصول هو التوسط بين اللين والعنف ، كما في سائر الاَخلاق.. يقول الغزالي : لمّا كانت الطباع إلى العنف والحدّة أميل ، كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر ، فلذلك أكدّ الشرع على جانب الرفق دون العنف ، وإن كان العنف في محلّه حسناً ، كما أن الرفق في محلّه حسن.. فإذا كان الواجب هو العنف فقد وافق الحقُّ الهوى ، وهو ألذّ من الزبد بالشهد !..
والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على الندور ، وإنّما الكامل من يميّز مواقع العنف فيعطي كلّ أمرٍ حقّه ، فإنّ كان قاصر البصيرة ، أو أشكل عليه حكم واقعةٍ من الوقائع فليكن ميله إلى الرفق فإنّ النجاح معه في الاَكثر(6)
فالرفق هو وسيلة التعامل الفضلى ما أدى الغرض وأصاب الهدف الاصلاحي وحقق الغاية المنشودة ، إلاّ اذا كانت النتيجة خلافاً لذلك المبتغى ولم يكن الرفق أوفق فيتوسل بالشدة من أجل الروع المقدم والهادي إلى سواء الصراط .
3 ـ الرفق والتعمق في الدين :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إياكم والتعمّق في الدين ، فإنّ الله قد جعله سهلاً فخذوا منه ما تُطيقون ، فإنّ الله يحبّ مادامَ من عملٍ صالحٍ وإن كان يسيراً»(7).
وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يعنّف أحد أصحابه حين كلّف نفسه مالا يأمر به الله ولا سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو يظنّ أنّه متعمّق في العبادة ! ذلك أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد زار العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه... ، فقال له العلاء ، يا أمير المؤمنين ، أشكو اليك أخي عاصم بن زياد . قال عليه السلام : «وماله » ؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن الدنيا . قال عليه السلام : « عليَّ به » . فلما جاء قال عليه السلام : « يا عَدُي نَفسِهِ ! لقد استهامَ بِكَ الخبيثُ ! أما رحمت أهلك وولدَكَ ! أترى الله أحلَّ لكَ الطيَّباتِ ، وهو يكرهُ أن تأخذها ! أنت أهونُ على الله من ذلكَ » !
قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجُشوبة مأكلك ! قال عليه السلام : « ويحكَ ، إنِّي لستُ كأنتَ ، إنَّ اللهَ تعالى فرضَ على أئمة العدل (الحق) أن يُقَدِّروا أنفسهم بضعفةِ النَّاس ، كيلا يتبيغ بالفقير فقرُهُ » (8).
التحذير من التعمّق في الدين يخص الجهلة به والذين يغورون في بحره بجهلهم دون علم ودراية وتدبّر ، حتى يختنقوا بأوهامهم وتصوراتهم التي لا تقوم على اُسس موضوعية ، وعندها يخيّل إليهم أن الدين شاقّ في تكاليفه ، عسير في عباداته ، والحال هو العكس تماماً إلاّ أنهم أخذوا بالمستحبات مأخذ الواجبات ، فشقَّ عليهم الاَمر وخرجوا بالنتيجة المغلوطة . أو أنّهم وسوسوا في الغسل والوضوء والطهارة والنجاسة وألفاظ الصلاة فملّوه . ولو أنّهم أخذوا بما يطيقون لوجدوه سهلاً يسيراً ، ولو لم يوسوسوا فيه لما ملَّوه .
4 ـ الوغول في الدين برفق :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تُكرِّهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المُنْبَتِّ الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى»(9).
نعم إنّ هذا الدين متين ، لاَنّه دين لكلِّ زمان ولكلِّ مكان ، وكتابه تبيان لكلِّ شيء.. فمن لم يدخل إلى حريمه برفق ، وفق منهجية حكيمة ، ينبهر بجماله ، أو يصطدم بجلاله ، ومن يتكلّف العبادة دفعة واحدة دون التدرج المرحلي المناسب للداخل في هذا الدين يصعب عليه تحمل هذا الدين، فيتركه ، وبتركه والعياذ بالله يترك سعادته الدنيوية والاخروية . وعلى المسلم الرسالي أن يتصرف بحكمة متناهية في الدقة مع من يكسبه إلى الاِسلام ، ولا يحمله ما لا يطيق فيكره الاِسلام والدين وعبادة ربِّ العالمين والله يقبل اليسير .
عن أبي عبدالله عليه السلام قال: « اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي: يا بني دون ما أراك تصنع ، فأنّ الله عزّ وجلّ إذا أحب عبداً رضي عنه باليسير»(10).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إنَّ النفس ملولة وإنّ أحدكم لا يدري ما قدر المدة ، فلينظر من العبادة ما يطيق ، ثم ليداوم عليه ، فإنّ أحبَّ الاَعمال إلى الله ما دِيم عليه وإن قلّ ».
فالنبي الاَكرم في هذا الحديث وغيره يؤكد لنا حقيقة أنّ النفوس تملُّ ، وعلينا أن نرفق بها في أن لا نكلفها ما لا تطيق ، وأن نستديم على اليسير من المسنونات التي لا تنفر منها نفوسنا ، وذاك أحبّ عند الله .
5 ـ الرفيق من يرفقك على صلاح دينك :
عن الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّما سمّي الرفيق رفيقاً لاَنّه يرفقك على صلاح دينك فمن أعانك على صلاح دينك فهو الرفيق »(11).
فاختر لنفسك رفيقاً يرفق بك على صلاح دينك ويعينك على تكامل سبيلك.
اعداد وتقديم : سيد مرتضى محمدي
القسم العربي - تبيان
المصدر:
(1) بحار الانوار 72 : 286 .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 16 : 97 كتاب 31 .
(3) إحياء علوم الدين 3 : 186 .
(4) غرر الحكم : 602 | 557 .
(5) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 17 : 3 كتاب 46 .
(6) إحياء علوم الدين 3 : 186 .
(7) كنز العمال : خبر 5348 .
(8) نهج البلاغة ، خ209 .
(9) كنز العمال : خبر 5350 .
(10) الكافي 2 : 87 | 5 باب الاقتصاد في العبادة .
(11) كنز العمال : خبر 5312 .