الصيغة الصوتية الواحدة
ظاهرة أخرى جديرة بالعناية والتلبث، هي تسمية الكائن الواحد، والأمر المرتقب المنظور،بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة، بنسق صوتي متجانس، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه، وبصوتيته على كنه معناه، ومن ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى،في إطار الفاعل المتمكن، والقائم الذي لا يجحد.
هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق، ويبعثك صوتها من الجذور، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه، ولا خلاص منه، فهوواقع يقرعك بقوارعه، وحادث يثيرك برواجفه.. الصدى الصوتي، والوزن المتراص، والسكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون وعوالم وعظات وعبر ومتغيرات في:
الواقعة / القارعة / الآزفة / الراجفة/ الرادفة/ الغاشية، وكل معطيك المعنى المناسب للصوت، والدلالة المنتزعة من اللف1 وتصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة.
1_الواقعة، قال تعالى: (إذا وَقَعَتِ الواقعةُ، ليسَ لِوقعتها كاذبة).
وقال تعالى: (فيومئذٍ وَقَعَتِ الواقعةُ).
قال الخليل: وقع الشيء يقع وقوعاً، أي: هوياً.
والواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر.
وقال الراغب (ت: 502 ه ) الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه، والواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع: جاء في العذاب والشدائد.
2_ القارعة، قال تعالى: (القارعةُ، ما القارعةُ، وما أدراكَ ما القارعةُ).
وقال تعالى: (كَذبت ثمودُ وعاد بالقارعة).
قال الخليل (ت: 175ه ): والقارعة: القيامة. والقارعة: الشدة.
وفلان أمن قوارع الدهر: أي شدائده. وقوارع القرآن: نحو آية الكرسي، يقال: من قرأها لم تصبه قارعة.
3_ الآزفة، قال تعالى:(أزفَتِ الآزفةُ، ليسَ لها من دونِ اللهِ كاشفةٌ).
وقال تعالى: (وأنذِرهُم يومَ الازفةِ إذِ القُلُوبُ لدى الحناجرِ كاظمينَ ما للظّالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يُطاعُ).
قال الراغب: معناه: أي دنت القيامة فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها وضيق وقتها.
وقال الطبرسي: (وأَنذرهُم يومَ الأزفةِ). أي الدانية. وهو يوم القيامة، لأن كل ما هو أتٍدانٍ قريب.
قال الزمخشري: والآزفة القيامة لأزوفها.
وفي اللغة: الآزفة القيامة، وإن استبعد الناس مداها.
ورقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة منالصدر، وصفير الزاي من الأسنان، وانحدار الفاء من أسفل الشفة، والسكت على الهاء منبعثة من الأعماق، كالرقة في معناها في الدنو والاقتراب وحلول الوقت، ومع هذه الرقة فيالصوت والمعنى، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه، ومن هذا التأفف هديره ورجيفه، فادناه يوم القيامة غير إدناء الحبيب، واقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد، أنه دنواليوم الموعود، والحالات الحرجة، والهدير النازل، إنه يوم القيامة في شدائده، فكانت الآزفة كالواقعة والقارعة.
4_ الراجفة والرادفة، قال تعالى: (يومَ تَرجُفُ الراجِفَةُ، تَتبعُها الرّادِفةُ، وتبدأ القيامة بالراجفة، وهي النفخة الأولى (تتبعها الرادفة) وهي النفحة الثانية.
وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك. قال الزمخشري (ت: 538 ه ) الراجفة: الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفحة الأولى، وصفت بما يحدث بحدوثها (تتبعها الرادفة) أي الواقعة التي تردف الأولى،وهي النفحة الثانية؛ أي القيامة التي يستعجلها الكفرة، استبعاداً لها وهي رادفة لهم لاقترابها. وقيل الراجفة: الأرض والجبال من قوله _يوم ترجف الأرض والجبال _ والرادفةالسماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها إثر ذلك'.
وبمتابعة هذه المعاني: النفخة الأولى، النفخة الثانية، الصيحة، التردد، الاضطراب، الواقعة التي ترجف عندهاالأرض والجبال، الواقعة التي تردف الراجفة، انشقاق السماء، انتثار الكواكب، الرعد إذا تمخض، بعث الخلائق وانتشارهم.. إلخ.
بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف والوجيف، والتزلزل والاضطراب، وتغيير الكون، وتبدل العوالم (يومَ تُبدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسمواتُ وبَرَزوا للهِ الواحدِ القهّارِ).
فتعاقبت معالم الراجفة والرادفة مع معالم الواقعة والقارعة والآزفة، وتناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى والأوزان.
5_ الغاشية،قال تعالى: (هل أتاكَ حديثُ الغاشيةِ). وهو خطاب للنبي (ص) يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتةً عن ابن عباس والحسن وقتادة.
قال الراغب (ت: 502 ه ) الغاشية كناية عن القيامةوجمعها غواش.
وقال الزمخشري (ت: 538 ه ): الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها، يعني القيامة.
وقال ابن منظور (ت: 711 ه ) الغاشية القيامة، لأنهاتغشى الخلق بأفزاعها، وقيل الغاشية: النار لأنها تغشى وجوه الكفار. وقيل للقيامة غاشية: لأنها تجلل الخلق فتعمهم.
إذن، ما أقرب هذا المناخ المفزع، والأفق الرهيب لمناخ الواقعة والقارعة والآزفة والراجفة والرادفة، إنه منطلق واحد، في صيغة واحدة، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها، وصوت حافل تتساقط حوله مصاعبها، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطويلة، في الشدائد، والنوازل، والقوارع، والوقائع، لتصور لنا عن كثب هيجانها وغليانها، وشمولها وإحاطتها:
(بَل يُريدُ الإنسانُ ليَفجُرَ أمامهُ، يَسئلُ أيّانَ يومُ القيامةِ، فإذا برقَ البصرُ، وخسفَ القَمَرُ، وَجُمعَ الشمسُ والقَمَرُ، يقولُ الإنسانُ يومئذٍ أين المفرُّ، كلا لا وَزَر، إلى ربكَ يومئذٍ المُستقر).
المصدر : الصوت اللغوي في القرآن - د. محمد حسين الصغير
معجزة رياضية في القرآن أذهلت الجميع
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه
هل كوكب الأرض أكبر شيء في الوجود؟
البحر المسجور