الجنس بين القمح و الاباحة
تحتل المسألة الجنسية جزءاً كبيراً من فكر الإنسان نظرا لما تشكله من ضغط و ما تمثله من حاجة مستمرة . و نظراً لذلك فإن رأي البشر من اجل حلها كان أمام طريقين : القمع و الاباحة المطلقة . بينما كان للوحي طريق ثالث .
أ ـ القمع : توجه الرهبان و الصوفية :
منذ البدايات و حيث كان البشر يفتش منفرداً عن طريق يوصله إلى الله سبحانه رأى ان هناك تناقضاً بين الدنيا و الآخرة ، و بين الغرائز و السمو ، لذلك اتخذ طريق رفض الاولى ، فهو يرفض الطعام اللذيذ ـ بالرغم من أنه نعمة الله ـ لكي يحصل على الآخرة ، و هو يترك الزواج ايضا لأن المقاربة الجنسية دليل تعلق بالدنيا .
و فيما يرتبط بالمسألة الجنسية عززها ما فهم لدى بعض المتدينين من كون المرأة مثالاً للخطيئة ، من خلال تفسيرهم لقصة خروج آدم و حواء من الجنة ، و كون المسيح عيسى بن مريم ( عليه السلام ) قد عاش حياة عزوبة و صدود عن النساء .
إن اساس هذا التوجه قائم على امرين :
1 ـ إن ترك المقاربة الجنسية بل قمع الغريزة الجنسية في النفس يفسح المجال للطاقات العاقلة و المبدعة لكي تتبلور و تبرز ، بينما الاصغاء اليها ـ في رأيهم ـ و تلبية مطالبها يجعل الإنسان أسير الشهوة و عبد الغريزة فتنطفىء مصابيح الحكمة في قلبه .
2 ـ إن التفرغ لعبادة الله و طلب ما عنده من الفضل يقتضي اخلاص التوجه اليه قلباً و قالباً ، فلا يتعلق القلب بغير حب الله ، و لا ينشغل القالب سر عبادته ، و كل استجابة لغريزة من الغرائز تعتبر عبادة لمتعلق تلك الغريزة لذلك فإن اخلاص العبادة ـ في رأيهم ـ يقتضي التخلص من هذه الغرائز و تركها . و هذه المذاهب وجدت ( في العصور القديمة و خالفت مبدأ الجنس ، و ان هذه الفكرة كانت تلاقي رواجاً بالاخص في المناطق التي سادت فيها الديانتان المسيحية و البوذية) .
و في المناطق التي عاشت بعيدة عن تأثير الديانتين البوذية و المسيحية ظهرت مذاهب و وجد رهبان دعوا الى التبتل و العزوبة . .
( . . و على ما يبدو فإن فكرة خبث " العلاقة و المقاربة الجنسية " راجت عند المسيحيين لهذا الحد بسبب تفسير من جانب الكنيسة في بداية تأسيسها حول حياة العزوبة التي عاشها عيسى المسيح ، فقد قيل بأن المسيح عاش أعزب بسبب الخبث الذاتي الموجود في العلاقة الجنسية و لذلك فإن رجال الدين المسيحيين عرفوا الارتقاء الى المراتب الروحية العالية بعدم المخالطة مع المرأة طيلة حياة الفرد كما ان البابا يجب أن ينتخب من بين اناس لم يخالطوا النساء مطلقا ، و رجال الكنيسة يعتقدون بان التقوى من الفرد الابتعاد عن الزواج . . ) .
ولم تكن هذه الفكرة مقصورة على البوذية و المسيحية بل وجدت حتى بين المسلمين بالرغم من تعاليم الإسلام الواضحة التي تعتني بالدنيا للآخرة . فقد جاءت زوجة عثمان بن مظعون عاطلة عن الزينة ، فسألتها احدى زوجات الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) عن سبب ذلك فأخبرتها ان زوجها يصوم النهار و يقوم الليل و لا يقربها ، فاخبرت بذلك الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فخرج إلى اصحابه فقال : اترغبون عن النساء ؟! اني آتي النساء و آكل بالنهار و أنام بالليل فمن رغب عن سنتي فليس مني ، و قد انزل الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ) [مائدة/87-88] فقالوا يا رسول الله : انا حلفنا على ذلك !! فأنزل الله : ( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ... ) [مائدة/89 ] .
و كذلك نجد ان امرأة تترك التزويج ، رغبة في الفضل ، و تتقرب بذلك إلى الله ، فقد جاءت امرأة للإمام الصادق ( عليه السلام ) فقالت : اصلحك الله اني متبتلة فقال لها : و ما التبتل عندك ؟! قالت : لا اريد التزويج ابداً ؟ قال : ولم ؟! قالت : التمس الفضل في ذلك. فقال : انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة ( عليها السلام ) أحق به منك ، انه ليس احد يسبقها إلى الفضل .
هذا هو الطريق الأول الذي اختاره البشر لمعالجة المسألة الجنسية و يتلخص في ضرورة قمع الغريزه بترك الاستجابة لها ، و اغفال نداءاتها من اجل اطلاق الطاقات العقلية الكامنة من جهة و لأجل التقرب الى الله ـ في رأيهم ـ من جهة أخرى .
إدانة الازدواجية و النفاق الذي يمارسه أدعياء الزهد ، و متظاهرو القدسية . فكما تظاهر بالزهد في الملابس و الأطعمة رجال كذبة ، كذلك وجد أشخاص ادعوا التعفف ، و ترك النساء ، و البعد عن الجنس ، زعما منهم بان ذلك يقربهم من الله و انهم يلتمسون الفضل بذلك ، و وجد بين هؤلاء صادقون مخطئون ، كما وجد كاذبون متعمدون في الخارج يتعففون و يصدون عن ممارسة الحلال ، بينما في واقع أمرهم يمارسون الحرام ، و لعل في قصة عابد بني إسرائيل مثالا واضحا لهذا النموذج . و في قصص أدعياء التصوف و شذوذهم الجنسي ما يؤكد هذه الحقيقة .
ب ـ الحرية الكاملة : افراز الحضارة الحديثة :
بعد ذلك المشوار الطويل الذي سلكه البشر ( أو بعضهم ) في قمع المسألة الجنسية جاؤوا من جديد ليسلكوا طريقاً معاكساً للسابق ، و ذلك بفتح الباب على مصراعيه في عبادة اللذة ، و ممارسة هذه الغريزة .
و تنطلق هذه الممارسة من نقاط ثلاث :
* اعتبار الممارسة الجنسية عملاً عادياً تؤديه بعض أعضاء الإنسان بشكل آلي ، تماماً كالاكل و الشرب و النوم . . و كما ان هذه الاعمال عادية و طبيعية عند البشر ، فإن الممارسة الجنسية ـ حسب هذه النظرية ـ يجب أن تكون كذلك . بكثرة الممارسة و في مختلف الظروف ، و دون قيود او حدود ، و متى اصبحت كذلك : كثيرة ، و دون قيود ، فقد انتهت كمشكلة .
اعتبار المسألة الجنسية امر شخصي ، يحدده رغبة الطرفين المشتركين فيه ، من دون دخل للقانون ، او حتى للعرف الاجتماعي في تحديده سواء في الكمية أو في طريقة الاداء . . فحسب اصحاب هذه النظرية ما دامت المسألة لا تتعارض مع حرية الآخرين فإن الأمر متروك لطرفي هذه الممارسة . و متى ما اخلت بحرية الآخرين فانها تقيد بذلك المقدار . و بالتالي فلا دخل للقانون و لا للعرف في تحديد طريقتها او كميتها في الاساس . لأنها شأن شخصي . . تماما كما لا يستطيع القانون أن يحدد عدد ساعات النوم بالنسبة للشخص ، أو مقدار ما يأكل .
" و لأن هذه الممارسة عمل ( عادي ) و ( آلي ) كالأكل ، و لانها من جهة أخرى شأن ( شخصي ) لذلك لا يوجد مكان يمنع فيه ممارستها لانها بحسب رغبة ( الشخص ) ، سواء في الحديقة العامة أو في المنزل .
هذا فضلا عن سائر القيود ( الدينية و الشرعية ) و هذا يصح و ذاك لا يجوز !!
و كان من نتيجة هذه النظرية ، نلاحظ اليوم في الغرب من انهيار سريع لنظم العائلة و من انفجار شهواني مدمر ، و من النسب المتزايدة في اعداد الأطفال غير الشرعيين و إلى آخر القائمة .
الإسلام و الجنس :
* تبيان تكاملية الدين ، و تجانسه فمن الممكن أن يكون المرء في أعلى درجات القرب من الله تعالى و الطاعة له ، و مع ذلك يتمتع بطيبات الحياة الدنيا مما احل له ، و هذه ميزة الدين الإسلامي ، و لعل ما نلحظه من غضب رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من أولئك الذين أرادوا الترهب إنما كان لأجل الخطأ في فهم تكاملية الدين ، و الاستعانة بنموذج خاطئ للإنسان المتدين ( نموذج الرهبان المنعزلين ) لذلك قال الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) مبينا حاله و هو افضل خلق الله و اقربهم منه في أكله الطعام و إتيانه النساء ، ثم مهددا بأن من يخالف هذا المنهج سيكون خارجاً عن سنته و طريقته ـ قال لعثمان بن مظعون ـ :
( يا عثمان لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية و لكن بعثني بالحنفية السهلة السمحة أصوم و أصلي و ألمس أهلي فمن احب فطرتي فليستن بسنتي و من سنتي النكاح ) [1] .
ان الله سبحانه ما خلق في الإنسان عضوا و لا غريزة إلا بهدف ، و هدف سام أيضاً ، إذا تم توجيه ذلك العضو و تلك الغريزة الاتجاه السليم . و هؤلاء المتصوفة أو الرهبان يعتقدون دون أن يشعروا انهم اعرف من الله ؟! و ابصر منه بطريق عبادته ، و العياذ بالله ، و ان خلق هذه الغريزة قد تم في غفلة و بدون تخطيط ، و لذلك فهم مكلفون ان يتداركوا هذا الخطأ بقمعها و القضاء عليها !! فهذه الطريقة ليست فقط لا تقرب لعبادة الله ، بل قد توصل إلى حد الكفر بالله ، عبر المعرفة الخاطئة به سبحانه .
أما فيما يرتبط بتبلور الطاقات الكامنة فقد وجدنا ان اكثر الأنبياء بشكل مطلق و على رأسهم و افضلهم نبينا محمد ( صلى الله عليه و اله و سلم ) و هو العقل الاكمل و الخلق الافضل في هذا الكون ، كانوا قد اعلنوا ان سنتهم هي الزواج بل نجد ان لهذا الرسول الأعظم ( صلى الله عليه و آله و سلم ) تسع زوجات بشكل دائم ، ولم يؤثر ذلك في ملكاته و مواهبه إلا صقلا ًو ابرازاً و ما ورد من كون نبي الله عيسى و يحيى ( عليهما السلام ) قد انصرفا عن الزواج و ان يحيى مدح بكونه ( حصورا ) فذلك إنما هو لأجل كونهما مطاردين من قبل السلطة و اليهود و الحياة الزوجية المستقرة عادة متنافية مع حياة المطاردة و التهديد ، ثم من المعلوم أن من يحصر نفسه عن الزواج لأجل أمر أهم لا شك يكون ممدوحا بذلك العمل [2] . و في المقابل وجدنا غالب أولئك المعتوهين و ذوي الشطحات من غير المتزوجين .
المصادر:
[1] كتاب النكاح : ا / 8 .
[2] سفينة البحار : 2 / 611 .
أسس العلاقة الزوجية الناجحة في حديث الكساء