مدينة حلب - تاريخها عبر العصور
( أ ) حلب في العصور الحجرية:
جميع الدراسات الأثرية العلمية التي جرت تدل على أن منطقة حلب سكنها الإنسان القديم الذي ربّى الماشية وعَرف الزراعة وبنى البيوت البدائية ( حفريات تل المريبظ )، كما سكن حلبَ نفسها في مغاور كبيرة تمتد على مسافات واسعة تحت المرتفع الصخري في جنوبي حلب.
( ب ) حلب في العصور التاريخية:
إن أقدم ذكر لمدينة حلب ورد في رُقُم أوروماري وأخيراً « ابلا » التي اكتُشفت في عام 1975م. والمعاهدة التي وقعت بين حلب وملك الحثيّين مورسيل الثاني، كانت تشير إلى حلب كمملكة في شمال سوريا، هي مملكة يمحاض التي كانت لها صلات وثيقة مع ممالك ما بين النهرين الآمورية التي حاربها مورسيل ملك الحثيّين. وبعد انحطاط الحثيّين ظهر الميتانيون واحتلوا منطقة حلب حوالي 1650ق.م. كما أن المصريين حين تخلصوا من حكم الهِكْسُوس تابعوا تقدمهم بزعامة تحوتمس الثالث فاحتلوا سورية الشمالية. وفي سنة 1370ق.م استعاد الحثيون السيطرة على حلب في عهد شوبيلولوما، واشترك ملك حلب مع حلفائه في معركة قادش عام 1289ق.م ضد المصريين بقيادة رعمسيس الثاني.
وفي العهد الآشوري زحف شلمناصر في عام 854ق.م على سوريا، وعبر الفرات إلى منطقة حلب حيث لقي استقبالاً حسناً من سكانها.
وبعد الحكم الآرامي دخلت سوريا الشمالية ( بما فيها حلب ) عام 539ق.م تحت الحكم الفارسي، وأصبحت مقاطعة فارسية إلى أن جاء الاسكندر المقدوني في عام 333ق.م واهتم بمنطقة حلب التي تدفق عليها اليونانيون وبدّلو اسمها فأصبح بيريه نسبة إلى مدينتهم الأصلية؛ فقد انتشرت اللغة اليونانية في هذه الفترة، وكذلك العادات والتقاليد في المدن الشرقية التي استوطنها القادمون الجُدُد. ونشأت بذلك حضارة جديدة بامتزاج الحضارتين الشرقية واليونانية سمّيت بالحضارة الهلنستية التي سُرعانَ ما أصابها الشلل نتيجة الحروب المتواصلة التي قامت بين البطالة في مصر والسلوقيين في سوريا. هذه الحروب مهدت الطريق إلى الاحتلال الروماني عام 64ق.م، حيث دخلت سوريا تحت الحكم الروماني وأصبحت المنطقة الشمالية مقاطعة رومانية باسم سوريا العليا. وحافظت حلب على اسمها اليوناني بتحريف بسيط حيث أصبح بيرويا.
ولدى انقسام الأمبراطورية الرومانية، ألَتْ حلب إلى القسم الشرقي البيزنطي، وحين انتشرت الديانة المسيحية في سوريا لعبت حلب دوراً بارزاً في دعم هذه الديانة الجديدة، غير أن الصراع بين الفرس والبيزنطيين كان له تأثيره المباشر على حلب التي كانت من المراكز المتقدمة والمهمة؛ ففي عام 450ق.م هاجم الفرس مدينة حلب وأحرقوها، ثم أعقب ذلك سلم، إلاّ أنه لم يَدُم طويلاً حيث تَهدّدَ الامبراطوريتين معاً قادمٌ جديد آتٍ من الصحراء، فقضى على الأمبراطورية الفارسية قضاء مبرماً، كما أنهى حكم البيزنطيين في سوريا.
( ج ) حلب في العهد الإسلامي:
لم يكن فتح حلب بالأمر السهل، فبعد حصارٍ لقلعتها دام أشهراً فُتحت في عام 15 هـ ( 637م ). وازدادت أهمية حلب بعد هدم مدينة قِنِّسْرِين 17 هـ ( 639م ) ونُقل سكانها إلى حلب.
وفي العصر العباسي ازدهرت مدينة حلب، ففي عام 254هـ ( 868م ) سيطر على الحكم في سورية أحمد بن طولون. ثم ظهر الحمدانيون العرب التَّغلِبيون واقتطعوا مِن جسم الأمبراطورية العباسيّة مملكةً امتدّت من الموصل على نهر دجلة حتّى الرقّة على الفرات، وضمّت كل سوريا الشمالية حتّى جبال طوروس.
وقد عرفت حلب في تلك الحقبة الصغيرة 324 ـ 394 هـ ( 944 ـ 1003م ) أزهى أيامها، وبخاصة في عهد سيف الدولة.. حيث أصبحت عاصمة الحمدانيين، ومركزاً عسكرياً لمناوأة البيزنطيين؛ إذ كانت الحرب سِجالاً بين الطرفين، لم يعرفها العرب قبل ذلك، وكانت تتميز بغزوات سريعة متبادلة تنتهي بانسحاب الطرفين.
وبعد موت سيف الدولة 356 هـ ( 965 م ) ضَعُف الحمدانيون واضطربت الأمور، وبخاصة أمام هجمات البيزنطيين والبدو المجاورين، وأخيراً الفاطميين الذين استقروا في القاهرة واتّخذوا من حلب ممراً للسيطرة على الخلافة في العراق. وكما قال المؤرخ ابن القلانسي عن طريق حلب كانوا يطمحون إلى بلوغ بغداد.
وبذلك تقدّم الفاطميون عام 353 هـ ( 962م ) حتّى أبواب حلب، واضطر سعد الدولة للاعتراف بخليفة القاهرة، وخطب باسمه على المنابر، وعمد إلى إعادة بناء الجامع الأموي الكبير وترميم الأسوار التي كانت بحالة يُرثى لها.
وبعد ضعف الفاطميين استطاع المرداسيون ـ وهم من بعض عرب الصحراء ـ السيطرة على منطقة حلب، إذ تمكن صالح بن مرادس من أن ينفرد بالحكم، وأن يجمع في بلاطه بعض الشعراء. وبازدياد النفوذ التركي في بغداد اضطر المرداسيون إلى الاعتراف بسلطة السلطان السلجوقي ملك شاه الذي عُيّن فيما بعد حاكماً لمدينة حلب، غير أنه كان في غاية الضعف فلم يَقوَ على الوقوف بوجه لغزو الجديد الآتي من أوروبا، ونعني به الغزو الصليبي الذي طوّق مدينة حلب باحتلاله أنطاكية وأورفه وأعزاز وأخيراً أفامية في عام 493هـ ( 1100 م ). ولم يكن من مناص أن يتم الاشتباك مع رضوان بن تتش السلجوقي حاكم حلب في سنة 493هـ ( 1100 م )، والذي انكسر أمام بوهيمند ودفع له الجزية السنوية. وقد تتالت المعارك بين أمراء المسلمين والصليبيين إلى أن ظهر أتابك الموصل زنكي في عام 522هـ ( 1128م ) الذي احتل حلب ودفع عنها حلفاً صليبياً كبيراً. وفي عهده جرى زلزال عام 522هـ ( 1128 ) المروّع. وقد أتى من بعده ابنه نور الدين زنكي في سنة 541 هـ ( 1146 م )، فاستأنف القتال ضد الفرنجة وهزمهم وسجن الكثير من أمرائهم في قلعة حلب، ولمّا داهم مدينةَ حلب زلزالٌ آخر عام 565هـ ( 1170م ) قام بترميم أسوار المدينة ومداخلها وأعاد بناء القلعة، كما نراها في وضعها الحالي تقريباً. وأشهر أمراء حلب في هذه الفترة التاريخية الملك الصالح وابنه الملك الظاهر ثم أخيراً الملك العادل عمّ الملك الظاهر الذي فرض سيطرته على سوريا ومصر.
آخر عهود الحكم العباسي في حلب كان عصر المماليك بين عامَي 655هـ ( 1260 م ) و 921 هـ ( 1516 م ) الذين تميز عهدهم في حلب بمحاربة أخطر الهجمات عليها، هجمات المغول، ففي عام 1260م هاجم هولاكو مدينة حلب واستباحها أسبوعاً كاملاً، وعندما جاء تيمورلنك عانت منه حلب ما عانت. واضطُرّ قايتباي المملوكي إلى أن يحدّد بناء حلب، فترك لنا آثاراً عديدة. ثم جاء بعده قانْصُوه الغُوري الذي لم يستطع الاحتفاظ بهذه البلاد أمام الغزو العثماني الجديد الذي بدأ مع حكم السلطان سليم الأول واستمر حتّى عام 1918م.
لقد عانت حلب الكثير من الحكم العثماني وتغيير الولاة وسيطرة الانكشاريين، ومع ذلك ظلت تحتل مكانَ الصدارة بين مدن شمالي سوريا، حتّى أنها كانت تفوق دمشق في الأهمية التجارية والصناعية. ويذكر الرحّالة بلون BELON ـ وقد زار المدينة عام 1537م ـ
« أن قوافل الفرس والهند والعراق كانت تحمل إليها محاصيلها، وأن كل المسافرين نحو هذه الأقطار المذكورة كانوا يجدون بحلب تجاراً مستعدين لمرافقتهم. وكان الإنسان يجد في هذه المدينة كل حاصلات الشرق، وكان أهل البندقية يرسلون أولادهم إليها ليتعلموا لغة أهل سوريا وعاداتهم ».
هذا الازدهار لم يَدُم، فمنذ أن أصبح البحّارة البرتغاليون يشترون التوابل من الهند مباشرة فقدت أسواقُ حلب احتكار هذا النوع من ( الترانزيت ) فضلاً عن أنّ التجارة نفسها تعرّضت لمضايقة الحكّام بسبب الضرائب الباهظة، وبسبب الخدمة العسكرية الطويلة الأمد والجائرة، وأخيراً بسبب انعدام الأمن على الطرق التي تمر من البادية السورية.
وابتداء من افتتاح قناة السويس أمام التجارة العالمية، أخذت تجارة العراق تهجر حلب، وعندها بدأ ضياع معظم ما تبقّى من ازدهارها التجاري والصناعي، وأصبح من اليسير التنبؤ باقتراب زوال أهميتها.
لقد اختُتم هذا التاريخ الحافل لمدينة حلب نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ وجدت حلب نفسها أمام دولة أجنبية جرّدتها من منطقتها الواسعة. وقد حاول الجنرال غورو قائد الجيوش الفرنسية المنتدَبة على سوريا جعلها دولة كاريكاتورية اسمها دولة حلب إمعاناً في تمزيق سوريا.
واليوم تحتل حلب المرتبة الثانية بين مدن القطر السوري، وتحتل المرتبة الممتازة في تجارة الشرق الأوسط، خاصة وأنّ سكانها زادوا على المليون نسمة، وأصبحت تتمتع بشهرة اقتصادية مرموقة.
اعداد وتقديم : سيد مرتضى محمدي
القسم العربي - تبيان
المصدر: ( الموسوعة الإسلامية الشيعية 323:6 ـ 327 )
الشيعة في بلاد الشام
التشيّع في آذربيجان وآسيا الوسطى
التشيّع في شمال أفريقية
التشيّع في تركيا