لذة العبادة والمناجاة وتاثيرها في التكامل
المناجاة لغة: من ناجى فلان فلانا، أي حدثه سراً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ..}، ومناجاة الله تعالى؛ أي الإسرار في الحديث معه جل وعلا.
إن الروايات تؤكد على أفضلية المناجاة الخفية مع الله تعالى؛ لما لها من الآثار الكبرى في الفرد:
1- تثبيتاً للإخلاص والابتعاد عن الرياء: إذ لا يخفى بأن المؤمن -مهما بلغ إخلاصه- يراوده هاجس الخوف من الرياء.. فمن الطبيعي إذا تفاعل وعاش حقيقة ضعفه، وفقره، وتقصيره، تجاه مولاه.. وصارت الدموع جارية على خديه، وارتفع صوته بالبكاء، أن يأتيه الشيطان فيصده قائلا: بأنك إنسان مراءٍ، أو قد يُظن بك الرياء.. فهو خوفاً من نفسه، أو تجنباً للتهمة من الآخرين، قد يترك البكاء بين يدي الله تعالى.. والحال بأن المؤمن ينبغي أن لا يأبه بالناس سوى الله تعالى، وأن عليه أن يفرق بين الهاجس المستقر وبين الخطور المجرد الذي يتأذى منه.
ومن هنا فإن مناجاة الله تعالى في الخفاء، تجنب المرء من الوقوع في هذا الشعور.. فهو وحده في جوف الليل؛ يسرح، ويمرح، ولا يخشى شيئاً.
2- كتمان الحالات الشعورية: إن المناجاة علاقة خاصة مع الله تعالى، يلزم الحفاظ عليها بالتكتم الشديد.. فلا ينبغي بثها للآخرين؛ فهذا يجعلها عرضة للزوال.. ومن المعلوم أنه حتى عشاق الفانيات، يلزمون كتمان حالاتهم مع من يعشقون.. فهنيئاً لمن كان باطنه خيراً من ظاهره، لا يعلم أمره إلا الله تعالى!..
3- الالتذاذ والأنس برب العالمين: فلا شك في أن المؤمن لا يناجي فراغاً، فهو عندما يقبل بوجهه إلى الله تعالى، فإنه يقبل عليه ويتجلى في فكره وقلبه؛ فيعيش حالات معنوية تدرك ولا توصف، مما ينسيه كل الآلام والمشاق.. ولا غرو فيمن أدرك تلك الأجواء المباركة، أن يترك لذيذ الفراش، ويقف الساعات الطوال في جوف الليل البهيم، في مناجاة رب العالمين.. حيث الغافلون نيام، وهو يحلق في رفقة المولى جل وعلا!.
*من المعلوم أن الإنسان بطبعه، يحتاج إلى من يأنس به، ومن يركن إليه.. وما يؤكد هذه الحقيقة، هو قوله تعالى: {أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، فالله تعالى تجاوز ذكر الأهداف الأساسية في الزواج: من تناسل، واستمتاع، وتدبير لشؤون المنزل، وغيره ؛ إلى السكون، والراحة.. لذا فإن الذي لا يحقق هذه الحالة بالحلال؛ فإنه يعيش حالة الاضطراب، والاكتئاب النفسي، والوسوسة، وقد يلجأ إلى السبل الملتوية -كما هو متعارف هذه الأيام- فيربط قلبه بإنسان في أقاصي المشرق أو المغرب!.. فإذن، المؤمن لابد له من أنيس، وهو لا يأنس إلا بالله، أو بمؤمن مثله؛ يمثل تجسداً إلهياً مصغراً بقيمه وصفاته.
*غير أن البشر عرضة للفناء والانقطاع، فإذا لم تفرقهم الظروف ، حال الموت دونهم.. ومن المعلوم أن الاستفادة الحقيقة، تكون: إما في العلم، أو العمل.. فهو من ناحية إمكاناته محدودة؛ فلا يستطيع أن يستدل على كل سبل الهدى.. ومن ناحية أخرى، قدراته محدودة؛ قد يعجز عن تحقيق مآربه.. فإذن، هو مبتلى: إما بالعجز، أو الجهل.. بينما الله تعالى هو الدائم، الذي كان قبلك، وهو معك، وسيكون بعدك.. وهو من بيده زمام الأمور، فكل قصور منتفٍ عنه.. فهنيئاً لمن أنس برب الأرباب!..
*إن المتأمل في قصة يوسف (ع) يلاحظ غلبة المشيئة الإلهية، فبرغم كل العقبات التي اعترضت طريق يوسف (ع): بدءاً بإلقائه في الجب، إلى قصته مع زليخة، ثم السجن.. فإن الله تعالى مكن له، وجعله على خزائن الأرض.. {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.. نعم، البعض يضج، وقد يصل بهم الأمر إلى اليأس -والعياذ بالله- من جبروت الظالمين، وتسلطهم على مقدرات الأمة؛ ولكن الله تعالى غالب على أمره، (ولإ زالة جبل عن موضعه، أهون من إزالة ملك لم ينقض أجله)؛ ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. فإذن، لا ضير بالإنس بالبشر؛ ولكن الأنس الحقيقي هو برب العالمين.
*إن البعض يشتكي بعدم الأنس في مناجاته مع الله تعالى، في حين أنه يأنس بكل لغو وباطل!.. والسبب في أن قوام المناجاة طرفان: المناجي والمناجى.. فمن اللازم على العبد معرفة الطرف الذي يناجيه، إذ كيف يتفاعل مع من لا يعرفه؟!.. فهنالك فرق شاسع بين المعرفة الوجودية، والمعرفة الوجدانية.. بين أن يؤمن العبد إيمانا نظرياً بوجود الرب، وبين أن يستشعر هيمنته على كل شيء في الوجود.. فلو أنه وصل إلى تلك الدرجة، فهل يخشى شيئاً، مهما بلغت به الأمور وضاقت به الأحوال؟!.. إن الأمر يحتاج إلى صدق في الاعتقاد، كما صدق يوسف، وكما كان حال يونس (ع)، قال تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فهنا يونس (ع) صرح بحقيقتين: الأولى: تسليم أمره لله تعالى، إذ يفعل ما يريد.. والثانية: الاعتراف بخطئه، فلم يحدد؛ أن يا رب أخرجني من بطن الحوت.. فجاءه النداء بالإجابة والنجاة: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}، وفي هذه عبرة للمؤمنين جميعاً، أن يحذو حذو يونس (ع).
*فإذن، من الضروري أن نلتفت إلى هذه الحقيقة: أن الذي لا يعيش حالة التلذذ فيالمناجاة، فإنه يفتقر إلى الارتباط الوجداني بالله تعالى.. نعم، هو آمن بوجود الله تعالى، ولكنه إيمان مجرد، لم يتغلغل إلى شغاف القلب.. فقلبه محجوب بعشق كل ما هو فانٍ: من الأهل، والأولاد، وغيره.. أضف إلى أن التوغل في الالتذاذ المادي، سبب في البعد عن الله تعالى؛ لذا من المناسب أنه بعد كل تنعم طعاماً، أو نكاحاً، أن يذكر الله تعالى، ويستغفره من كل ما يوجب الانقطاع عنه جل وعلا.. وكذلك مخالفة المضامين الدعائية، أيضاً من موجبات الحرمان.. إذ كيف هو في حال الدعاء، يعيش حالة الاستكانة والافتقار، وتتحرك مشاعره تجاه الإله المعبود؛ فيناجيه بهمس العاشقين؛ مستغفراً نادماً، ثم بعدها يعود إلى عالم الغفلات والمشغلات!.. أليس هذا مصداقاً لخلف الوعد، والاستهزاء بالمولى جل وعلا؟!..
*لا شك بأن كل سلوك في الحياة، يحتاج إلى ممارسة عملية مستمرة؛ لتعزيزه وتنميته.. فالعدّاء يحتاج إلى ممارسة بعض التمارين بشكل رتيب ودائم؛ ليحصل على بغيته، ويفوز في السباق.. وكذلك القارئ، والكاتب، والشاعر..الخ.. والمناجاة أيضاً مع رب العالمين، تحتاج إلى جهد فردي.. فالذين أنسوا بالحديث مع رب العالمين، تعبوا على أنفسهم، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.. ومن هنا نورد بعض التوصيات العملية في هذا المجال:
4- استغلال بعض المحطات الحياتية، في المناجاة الخفيفة مع رب العالمين؛ بكلمات وجدانية بليغة، مستندة إلى ما ورد في التراث الدعائي، أو بأي تعبير كان وبأي لغة كانت.. فكم من الجميل أن يبث الإنسان ربه شكواه، ويتحدث معه!.. فإن كان يريد ذرية، قال: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}.. وإن كان يريد سكناً، قال: (ربِّ!.. أنزلني منزلاً مباركاً، وأنت خير المنزلين).. وهكذا، فإن الالتزام بورد معين نافع لقضاء الحاجة بإذن الله.
5- من المعلوم أن العبد أقرب ما يكون إلى ربه، وهو في حال السجود.. فمن المناسب أن يطيل في السجدة الأخيرة من الصلاة، وفي سجدة الشكر؛ ليحلق عالياً في الحديث مع رب العالمين.. ومن المناسب أيضاٌ عند التثاقل عن قيام الليل، أن يناجي الله تعالى، ويستغفره، ثم يعاود النوم.
6- أن يعوّد نفسه على المناجاة القلبية؛ بأن يذكر الله في نفسه أينما كان، وفي أي حال؛ محققاً مضمون هذه الآية الكريمة: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}.
7- أن يحقق مفهوم الخشوع في المناجاة؛ فهماً لمضامين الدعاء، ورقةً في القلب وبكاءً.. وإن لم يكن ذلك، فلا بأس بالتخشں أي بالتظاهر بمظهر الخاشعين.. فإذن، هنالك خشوع فكري، وآخر تخشع قلبي.. فعلى المؤمن أن يسعى لتحقيقها؛ ليسمو بروحه في رحاب المولى جل وعلا.
تنمية القابليات في باطن الإنسان
القابليات الروحية لدى الإنسان
التربية البدنية من وجهة نظر الإسلام
مناقشة نظرية نسبية الأخلاق