تفسير ظاهرة الطائفية
الاختلاف الديني والمذهبي هو سنة إنسانية عرفها المجتمع البشري منذ فجره الأول. ولأن البشر خلقوا على حرية الانتماء لما يختارونه من الأديان والمذاهب، عرف المجتمع البشري الوحدة والاختلاف في الانتماءات الدينية والمذهبية. وقد أدت الوحدة في الانتماء للدين والمذهب بما تتضمنه من الاشتراك في الخصوصيات الدينية، إلى تأطر الأتباع بإطار اجتماعي خاص، وهكذا تشكلت في المجتمع البشري الطوائف الدينية والمذهبية المتعددة.
وليست مشكلة البشر في اختلاف الطوائف الدينية، فالاختلاف الديني والمذهبي بما هو مظهرٌ للحرية الفكرية والدينية وبما يفرزه من تعددية دينية ومذهبية في مكونات المجتمع البشري بطبيعته لا يقتضي صراع الطوائف واحترابها من أجله. إلا أن حاكمية الجشع وسيطرة الأنانيات هي التي حوّلت الاختلافات الدينية إلى خلافات وصراعات طائفية تفتك بالمجتمعات البشرية، وتقسمها إلى طوائف ينهش بعضها البعض الآخر.
وجاء التفسير الديني المُتطرف وأسس ثقافة الطائفية والعصبية والكراهية ضد المُخالف الديني والمذهبي وشيدها على أركان الجهل والتخلف. ومع بروز المدارس التكفيرية التي أشعلت خطابها الطائفي المحموم ضد المذاهب الإسلامية الأخرى، اشتدت حدة الانقسام والصراع المذهبي، وأُضرمت نيران الطائفية لتحرق ما تبقى بين الطوائف من وشائج وروابط.
ومع قيام الدولة الحديثة التي أسست على سيادة القانون ومبدأ المواطنة وما يقتضيه من ضمان كافة الحقوق المدنية لجميع المواطنين، بلا فارق بين أتباع الديانات والمذاهب المختلفة، تصاعدت وتيرة سياسات التمييز الطائفي التي تفرق بين المواطنين على أساس الاختلاف في الطائفة والمذهب للهروب مما تفرضه الدولة الحديثة من استحقاقات.
وهكذا ثمة تزامن وترابط ينبغي أن يُلحظ بين صعود حركات الإسلام السياسي وتنامي المطالب الإصلاحية، وبين تضخم ظاهرة الطائفية كمشكلة تتصل بالاجتماع السياسي، والتي امتدت رقعتها أفقياً في الأنظمة الحاكمة على العالم العربي والإسلامي وعمودياً حيث تغلغلت في كل الأجهزة الحكومية التابعة لها.
ومع تداخل العنصرين السياسي والديني وترابط المصالح السياسية بالدينية والعكس، أضحى التمييز والصراع بناءً على معيار الطائفية العنوان الأبرز لتوصيف المشهد السياسي والديني في الواقع العربي والإسلامي المعاصر. وهكذا تدخلت الطائفية بما تمثل من قدرة على الاستقطاب والتفريق في صياغة محاور الصراع السياسي الإقليمي بحسب ما يخدم أجندات دولية وإقليمية خاصة.
ثمة جدل عريض في تفسير ظاهرة الطائفية كظاهرة اجتماعية تتصل بالحقل الديني والسياسي. وبينما هنالك اتجاه تفسيري يفترض أن الطائفية نابعة من تعددية الطوائف الدينية والمذهبية وتنوعها، هنالك اتجاه آخر يذهب إلى أن الطائفية هي وسيلة تستثمرها النخب السياسية والدينية والاجتماعية من أجل تحقيق أطماعها في السلطة وحب الرئاسة.
ولا ريب، أن الاضطراب في تفسير الطائفية وتحليلها يؤدي إلى التخبط في مواجهتها والحد منها. وعلى العكس، فإن عملية الضبط والحصر للعوامل والأسباب المؤدية لاشتعال الصراعات والفتن الطائفية يعتبر عاملاً حاسماً في تقويض الطائفية وإنهائها من مجتمعاتنا الدينية والإسلامية.
ضبط المفهوم؛ أنماط الطائفية
وليتمكن الباحث من تفسير ظاهرة الطائفية وتحليل أسبابها ينبغي التفكيك ابتداءً بين نمطين من أنماطها، وهما الطائفية في المجتمع والطائفية في الدولة (1) .
إذ أن لكل منهما طبيعته وتفسيره الخاص وأسبابه الفاعلة فيه. والخلط بين أنماط الطائفية أو النظر لها كما لو كانت ظاهرة أحادية النمط سيقود إلى خلط آخر على مستوى التحليل والتفسير. ومن هنا فإن ضبط المفهوم وتحديده يعدُ أولى الخطوات المنهجية التي ينبغي أن يسلكها الباحث في تفسير الطائفية وتحليلها.
وبناءً على التفكيك المتقدم، فإن لدينا نمطين من أنماط الطائفية: (2)
النمط الأول: الطائفية في المجتمع، وهو مبتنٍ على التنوع الديني والمذهبي وما تفرزه العصبيات والأنانيات من صراع واحتراب اجتماعي.
وتبرز الطائفية في هذا النمط بما هي مظهر للانقسام والتشظي والاحتراب الذي يفكك أواصر الوحدة الدينية والاجتماعية. ويمكن القول:
أنها هنا من صناعة علماء السوء الذين حرفوا تعاليم الأديان السماوية، وأسسوا ثقافة الإقصاء والعصبية التي تدفع نحو مغالبة الآخر والإساءة إلى عقائده وشعائره ورموزه.
وفي هذا النمط تندرج الطائفية كظاهرة إلى الحقل الاجتماعي الديني، حيث يبرز الصراع بين الهويات الدينية الفرعية، وينعكس سلباً على طبيعة العلاقات الاجتماعية.
النمط الثاني: الطائفية في الدولة، وهو قائم على احتكار جماعة معينة للسلطة واستغلال الدين في استقطاب الولاءات وشرعنة الظلم والاستبداد. والطائفية في هذا النمط ليست إلا وسيلة استثمارية تستخدمها النخب السياسية في غمار الصراع على السلطة والحفاظ على المواقع.
وتبرز الطائفية في هذا النمط بما هي سلوك عدواني يعمد إلى إقصاء الطوائف الأخرى من خلال ظاهرها، الذي هو إرادة تعميم القيم الدينية أو المذهبية والانتصار لها، أما باطنها فهو الوصول إلى السلطة والرئاسة والحفاظ عليها، فيكون الظاهر بمثابة الجسر لتحقيق الباطن. وعلى هذا، فإن الطائفية هنا ليست ظاهرة اجتماعية دينية أو اجتماعية صرفة، وإنما هي ظاهرة تنتمي إلى حقل الاجتماع السياسي.
استناداً على ما تقدم، يقوم النمط الأول على فرضيتين أساسيتين:
أ: إن تحريف علماء السوء للأديان وللتعاليم الدينية هو الذي يؤسس إلى ثقافة العصبية للدين والطائفة والمذهب، مما يدفع المكونات المذهبية بنخبها الدينية والاجتماعية إلى انتهاك الحقوق المادية والمعنوية للآخر المُختلف.
ب: إن طمع علماء السوء والنخب الاجتماعية الفاسدة في العلو والرئاسة يمثل عاملاً أساسياً في صناعة الطائفية في المجتمع.
أما النمط الثاني فيقوم على عدة فرضيات:
أ: إن السياسة الطائفية التي تتبعها الدولة ليست ناتجة عن تعدد الطوائف والديانات، وإنما هي مجرد وسيلة لاستقطاب الولاء الطائفي للنظام، ولتفريق الجمهور عن خصومه السياسيين.
ب: إن سياسة الطائفية تنتجها السلطة التي تتعصب للقبيلة أو الحزب كمنهجية للمحافظة على وحدتها واستمرارها، ولتبرير الالتفاف على حاكمية الحق والعدالة وانتهاك الحريات وسلب الحقوق المدنية.
ج: إن الطاغوت السياسي يوظف رجالاته في المؤسسة الدينية الرسمية والإعلام الرسمي وسائر أجهزة الدولة لتنفيذ مشروعه الطائفي (3) .
وقد يجتمع نمطا الطائفية في بيئة واحدة فتصبح طائفية مزدوجة ومركبة من الطائفية السياسية التي تمارسها السلطة وتصطبغ بها كل أجهزة الدولة ومن السلوك الطائفي الذي يصنعه الدين المُحرف والفكر المتطرف وأطماع علماء السوء والنخب الاجتماعية الفاسدة.
اعداد وتقديم : سيد مرتضى محمدي
القسم العربي - تبيان
المصادر:
(*) دراسة طرحت في مؤتمر القرآن بسيهات، سنة 1432هـ
(1) دراسة لسماحة الشيخ عباس السعيد
(2) نقد مفهوم الطائفية، برهان غليون، مجلة الآداب البيروتية كانون الثاني 07
(3) راجع: نقد مفهوم الطائفية، برهان غليون، مجلة الآداب البيروتية كانون الثاني 07.
مقارنة بين صنع الله وصنع البشر لتوضيح معنى المعرفة الفطرية(2)
مقارنة بين صنع الله وصنع البشر لتوضيح معنى المعرفة الفطرية(3)
الماركسية واللاأخلاق
نشأة العرفان و التصوف عند المسلمين