الإمام الحسين.. الشاهد والشهيد
إذا كان الإمام الحسين عليه السلام يمثل الإسلام، وإمام الأمة، وحجة الله، فإنّ الجدير بنا أن نتخذه إماماً في كل مناهجه وشرائعه، وبالأخص في الآفاق التالية:
عرفان الرب
أولاً: يوم انصهر في بوتقة التوحيد، وعرفان الرب، وزكاة القلب، والتبتل في الليل، وكان حاله تأويلاً صادقاً لقوله سبحانه: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذاريات: 17).
وما دعاؤه في يوم عرفة إلا قبساً من نور توحيده، ووهجاً من شوقه إلى رضوان ربه، وفيضاً من حكمته الإلهية.
ألا تراه واقفاً في صحراء عرفات تحت شمس الظهيرة اللاهبة، وقد رفع كفيه الضارعتين إلى ربه، وجرت دموعه الدافئة على خده، وهو يخاطب ربه بكل عفوية وانسياب ويقول:
"أنت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها، وتضيق بي الأرض برحبها، ولولا رحمتك لكنتُ من الهالكين. وأنت مقيل عثرتي، ولولا سترك إياي لكنتُ من المقبوحين. وأنت مؤيدي بالنصر على أعدائي، ولولا نصرك إياي لكنتُ من المغلوبين. يا من خص نفسه بالسمو والرفعة، فأولياؤه بعزه يعتزّون. يا من جعلت له الملوك نير المذلة على أعناقهم فهم من سطواته خائفون، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وغيب ما تأتي به الأزمنة والدهور. يا من لا يعلم كيف هو إلا هو. يا من لا يعلم ما هو إلا هو"[1].
هذا القلب الكبير الذي استقبل نفحات الرب في عرفات الحجاز.. هو القلب الذي استقبل تحديات الموت في يوم عاشوراء بتلك النفحات عندما إزدلف عليه أكثر من ثلاثين ألفاً من أعدائه يريدون قتله، فتوجه إلى ربه ضارعاً وقال:
"اللهم أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، وشكور إذا شكرت، وذكور إذا ذكرت، أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي مكروباً، واستعين بك ضعيفاً، وأتوكل عليك كافياً، أحكم بيننا وبين قومنا"[2].
هذا هو الإمام الحسين عليه السلام، فعلينا أن نسمو إلى درجة إتّباعه في زهده وتقواه، في تبتّله وعبادته، في سلوكه وخُلُقِه.
السبيل الحب
ثانياً: ويوم نشأ بسلسبيل حب الله والرسول وعترته، فكانت نفسه طاهرة من أدران الشرك ووساوس الشك، وحوافز الشر، وغل الحسد، والحقد، والعصبيات المادية، وحين نقف على ضريحه المبارك نترنم:
"أشهد أنك طُهر طاهر، من طُهر طاهر، طَهُرْتَ وطَهُرَت بك البلاد، وطَهُرَت أرض أنت بها، وطَهُر حرمك"[3].
الطاعة سبيل اليقين
ثالثاً: ويوم وقف بعزم صادق ونية خالصة إلى جانب أمه الصديقة الزهراء في معركة فدك، وإلى جانب والده الإمام علي عليه السلام في يوم الجمل وفي صفين والنهروان، وإلى جانب أخيه الإمام الحسن عليه السلام في حربه وسلمه.
وهكذا كانت طاعته لقيادته الإلهية خالصة من أية شائبة، ذاب فيها كما تذوب قطرة ماء زلال في بحر فرات.
ونحن - إذ نتبعه - نروّض هوى النفس في ذواتنا لنصبح جزءًا من تيار التحرك الرسالي في الأمة، لا نريد لأنفسنا جزاءً ولا شكوراً.
وهكذا نقرأ في زيارته: "وأطعتَ الله ورسوله حتى أتاك اليقين"[4].
وهكذا الطاعة سبيل اليقين، ومن يرفض الطاعة بمعاذير يلقيها إليه الشيطان يصبح ضحية الوساوس طوال حياته.
نهج الحياة
رابعاً: وأخيراً نتبعه يوم توّج تلك الحياة الربانية بشهادته لتكون نهج حياة.
ويوم شهادته كان السبط مثلاً أعلى لكل التضحيات، وحجةً بالغةً علينا فيها.
لقد قدّم في يوم واحد كلما يمكن أن يقدّمه إنسان في سبيل ربه، كما ضرب أنصاره الكرام أروع الأمثلة في الإخلاص والإيثار. وهكذا كان الإمام حجةً بالغةً على كل متقاعس عن الجهاد، متخاذل خنوع.
إنهم يتقاعسون عن الجهاد حفاظاً على أموالهم ودورهم وضياعهم كما خشي عمر بن سعد وخرج بذلك لقتال الإمام الحسين بكربلاء.
أو لم يكن للإمام ضياع ودور وأموال فتركها لله عندما قرر القيام ضد طاغية زمانه؟!
ويتقاعس البعض عن الجهاد خوفاً على سمعته أن تنالها أجهزة التضليل الحكومية!!
أو لم يكن سيد الشهداء قد تعرض لذلك التشويه فقالوا عنه: إنه قُتِل بسيف جده، ونشروا في عرض البلاد وطولها بأنه خارجي، وكانت مئات الألوف من المنابر التي أقامها النبي للدعوة إلى الله، تبث الزيغ، والتبرير، والتحريض على المجاهدين الأوفياء لدين الله، وضد أبي عبد الله الحسين عليه السلام بالذات؟
وينكفئ البعض عن واجبه الشرعي لأنه يخشى على عائلته وأسرته أن تتضرر في زحمة الصراع السياسي.
بالله عليكم أي أسرة أشرف من أسرة النبي صلى الله عليه وآله، وأي أهل بيت أعظم من أهل بيت الوحي، وقد حملهم معه سيد الشهداء إلى كربلاء ليكونوا معه شهوداً على تلك المجزرة الرهيبة، ثم دعاة إلى القيام ضد بني أمية، وقد تعرضت لكل ألوان البلاء وأشدها إساءة حتى قُتلوا وأُسروا وطافوا بهم البلاد، يتصفح وجوههم أهل المنازل والمناهل، وهم حرم رسول الله، ومهابط وحي الله، ومعادن حكمته.
وبعض الناس يزعمون أن القيادة ينبغي أن تكون محمية بعيدة عن الخطر.. وأي قائد أعظم من حجة الله وسبط الرسول وكهف المحرومين أبي عبد الله عليه السلام، وها هو يقدم نفسه للفداء قرباناً إلى ربه ودفاعاً عن الرسالة؟.
وهكذا كان ولا يزال السبط الشهيد شاهداً خالداً علينا - نحن المسلمين - ضد كل تبرير وعذر وتقاعس وانكفاء.
واليوم حيث يتعرض خط الرسالة للتشويه من قبل أبواق الكفر والنفاق، ما أحوجنا إلى الإمام الحسين عليه السلام ونهجه وسيرته وشهادته الدائمة على العصور.
وبصراحة؛ إن من يريد العزة والكرامة والاستقلال والرقي لابد أن يعد نفسه ومجتمعه إعداداً مناسباً، والنهج الحسيني هو الإعداد المناسب لكل تلك التطلعات.
علينا اليوم أن ننفتح على هذه النفحة السماوية التي تفيض بها ملحمة عاشوراء.
تعالوا نفكر جدياً وجذرياً كيف نبدأ الانعطافة الكبرى في حياة أمتنا؟ ألا يكفي الذل والصغار؟ ألا يكفي التشرّد والتشرذم؟ ألا تكفي الهزائم والويلات؟ ألا يكفي هتك الأعراض وقتل الأطفال و..و..؟
تعالوا نبني ذلك التجمع الناهض الذي يحتمي بظل الإسلام الحنيف والنهج الحسيني الثائر ضد فتن الجاهلية وبغي الاستكبار وقيد الجبارين ومكر الطامعين.
أجل إن الحسين مصباح هدىً وسفينة نجاة....
فتعالوا نضيء جنبات حياتنا المظلمة بهذا المصباح الإلهي.(5)
اعداد و تقديم : سيد مرتضى محمدي
القسم العربي - تبيان
المصادر:
[1] - مفاتيح الجنان، دعاء عرفة.
[2] - مفاتيح الجنان، أعمال اليوم الثالث من شعبان.
[3] - كامل الزيارات لابن قولويه، ص360، باب79، زيارات الحسين بن علي عليهما السلام.
[4] - مفاتيح الجنان، زيارة الإمام الحسين عليه السلام ، الزيارة السابعة.
[5] - اية الله محمد تقي المدرسي
الإمام الحسين عليه السلام وامتحان الاختيار
ساعة الصفرواختيار الطريق
دقائق ولحظات من ساعات التوديع
البعد التربوي لواقعة الطف