مجموعة أسئلة تحدّث عنها الإمام في نهج البلاغة في موضوع الزهد
هل أن الزهد والإعراض عن الدنيا الذي يؤكد عليه نهج بلاغة الإمام ( عليه السلام ) تبعاً للقرآن الكريم ، صفة أخلاقية روحية فحسب؟ هل أن الزهد كيفية روحية فقط أم أن لها جوانب عملية أيضاً؟ هل أن الزهد هو إعراض الروح أم إعراض عملي وروحي؟
وعلى الثاني ، فهل أنه إعراض عملي عن المحرمات فحسب ( كما في الخطبة: 79 ) أم أكثر من المحرمات ( كما في حياة الإمام ( عليه السلام ) والرسول ( صلّى الله عليه وآله ) )؟
وإذا كان الثاني ، فما هي فلسفته؟ وما هي خواص الحياة مع الإعراض عن نعيمها؟
ثم هل يصح العمل به مطلقاً ، أم أنه إنما يصح بشرائط خاصة معينة؟
ثم هل يتلاءم هذا مع سائر التعاليم الإسلامية أم لا؟
ثم إذا كان الزهد مبنياً على أساس اختيار أهداف غير مادية ، فما هي تلك الأهداف في الإسلام ، وما هو بيان نهج البلاغة بهذا الصدد؟
هذه هي مجموعة الأسئلة التي تحدّث عنها الإمام في نهج البلاغة في موضوع الزهد ، ويجب أن تتضح لنا . وسنبحث عنها
في الفصول التالية:
قلنا أن الزهد حسب التعريف والتفسير الذي يستفاد من نهج البلاغة هو حالة روحية ، وأن الزاهد بما له من العلائق الأخروية والمعنوية لا يعتني بمظاهر الحياة المادية .
ونقول إن الزهد وعدم الاعتناء بمظاهر الحياة المادية لا ينتهي بالإحساس والفكر والضمير فقط ، بل أن الزاهد زاهد في حياته العملية أيضاً ، فهو قانع فيها محترز عن التنعم باللذائذ والكماليات المادية .
وليس الزاهد هو من كان في تفكيره معرضاً عن الأمور المادية فقط ، بل هو من يحذر في مرحلة العمل عن التنعم باللذائذ والكماليات ويكتفي من الماديات بالحد الأقل من التمتع بها .
وليس الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) زاهداً لكونه لم يكن يرغب في الدنيا بقلبه فقط بل لأنه كان يأبى عن التمتع باللذائذ ، وكان - كما يقولون - تاركاً للدنيا معرضاً عنها في الفكر والعمل .
مسألتان :
وهنا مسألتان تطرحان نفسهما على ذهن القارئ الكريم ، لابدّ من أن نجيب عنهما:
المسألة الأولى: إنا نعلم أن الإسلام يخالف الرهبنة المسيحية ، ويعدها من بدع الرهبان والقُسس . وقد قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ): ( لا رهبانية في الإسلام ) . وحينما أخبروه أن جماعة من صحابته قد أعرضوا عن الحياة وكل شيء فيها ، وأقبلوا على الاعتزال عن المجتمع وعبادة الله وحده . عاتبهم على حالتهم تلك وقال لهم: أنا نبيكم ، ولست أفعل كما تفعلون أنتم! وبهذا أعلن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أن الإسلام دين حيوي ، اجتماعي لا رهباني!
أضف إلى ذلك أن تعاليم الإسلام تشمل جميع جوانب الحياة ، وهي في المسائل الاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسة ، والأخلاقية ، إنما تبتني على أساس كرامة الحياة الإنسانية ، لا الإعراض عنها!
أضف إلى ذلك أن الرهبنة والإعراض عن الحياة يتنافى مع الفلسفة الإسلامية المتفائلة في شأن الكون والوجود ، إذ ليس الإسلام كبعض الأديان الأرضية المختلفة والفلسفات المصطنعة التي تتشاءم من الكون والوجود أو تقسم الخلقة إلى قسمين: خير وشر ، حسن وقبيح ، ظلام وضياء ، حق وباطل ، صحيح وغير صحيح ، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون .
المسألة الثانية: هي أنه فضلاً عن أن الزهد هي الرهبنة التي تتنافى مع الفلسفة الإسلامية ، نقول: ما هي فلسفة الزهد في الإسلام؟ ولماذا يزهد الإنسان في الحياة؟ لماذا يأتي إلى الحياة ويرى بعينه بحور النعم الإلهية ثم هو يمر عليها مرور الكرام ولا يبل منها الأقدام؟
وعلى هذا: أفلا يمكننا أن نتّهم هذه التعاليم التي نراها في الإسلام في الزهد والرهبنة ، بأنها من البدع التي دخلت الإسلام بعد صدره الأول من الأديان الأخرى كالمسيحية والبوذية؟!
إذن فما نقول فيما جاء من ذلك في نهج البلاغة؟! بل ماذا نقول في حياة الإمام علي ( عليه السلام ) ، ومن قبله حياة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وبم نفسّر ذلك؟ وكيف نوجّهه ونأوّله؟!
والحقيقة في الجواب أن نقول: إن الزهد الإسلامي شيء والرهبنة شيء آخر .
فالرهبنة: انقطاع عن الخلق لعبادة الخالق ، على أساس التضاد بين عمل الدنيا والآخرة ، فإما العبادة ورياضة النفس في الدنيا لاستكمال نعيم الآخرة ، وإما الحياة الدنيا للحياة فيها فحسب ، وعلى هذا فالرهبنة تستلزم الانقطاع عن الحياة والمجتمع والمسؤولية أيضاً . وهذه هي الرهبنة المقيتة .
أما الزهد الإسلامي: فهو وإن كان يستلزم اختيار حياة ساذجة غير متكلّف فيها ، وعلى أساس الإعراض عن التنعم والتجمل بلذائذ الحياة وكماليتها المادية الإضافية ، لكنه - في نفس الوقت - علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية في الإسلام ، ومن أجل الخروج الصحيح عن عهدة أدائها لوجهها .
إذن ، فليست فلسفة الزهد في الإسلام هي نفس تلك الفلسفة في الرهبنة المسيحية المبتدعة . إذ ليس في الإسلام مضادة بين الحياتين ، بل ولا تجزئه بينهما ، ولا بين العمل لهما .
بل إن الإسلام يرى العلاقة بين هاتين الحياتين علاقة ظاهر الشيء بباطنه ، والشعار بالدثار ، والجسد بالروح ، لا وحدة ، ولا مضادة ، وإنما الاختلاف بينهما في الكيفية .
وفي الحقيقة ، كل ما كان صالحاً لهذه الحياة - واقعاً - فهو صالح لتلك الحياة الأخرى أيضاً ، ولهذا وجب الترابط بين العمل الصالح في هذه الحياة لتلك الأخرى بالنية .
ولذلك: فلو عمل المرء عملاً يتفق مع المصالح السامية لهذه الحياة ولكنه يخلو من النية الصالحة المرتبطة بتلك الحياة ، عُدّ هذا العمل دنيوياً ، أما إذا كانت الناحية الإنسانية في العمل تنطوي على أهداف أسمى من الدنيا رامية إلى الآخرة ، فذاك العمل عمل أخروي مقرب محبوب راجح ، أما واجب أو مستحب مندوب إليه .
فالزهد الإسلامي - كما بيّنا - تكييف خاص للحياة ينشأ من إدخال معان من المثل والقيم الأخلاقية القيمة في الحياة الاجتماعية للفرد المسلم ، وهو - كما يظهر من النصوص - يستقر في صميم الحياة الاجتماعية الإسلامية .
عظمة النفس و الغيرة في نهج البلاغة
الفصاحة والجمال في نهج البلاغة
بلاغة الإمام علي عليه السلام
عقله الجبار ينظم عاطفته
ماهي التقوى؟