اسباب التفرّق والتمزّق في الأمة وحلوله
التفرّق والتمزّق الذي ابتليت به الأمة يعود في الغالب إلى اضطراب في العلاقة بينها وبين قيمها الجامعة، وبينها وبين مراكز القوى فيها، وينعكس ذلك على العلاقة بين سائر أبنائها.
1- القرآن الكريم حدد محورية الحق سبحانه في الأمة التي يريد وأمر بالاعتصام بحبله.
قال تعالى:(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[1].
ونهى عن التنازع مبيناً أسبابه وعلاجه ونتائجه. قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[2].
2- يقوم الحاكم بدور هامٍّ وخطيرٍ جدًّا في حراسة القيم وتقديمها إلى أبناء الأمة بما يليق وشأنها وشأن الأمة التي تنتمي إليها، ولذا أصبح قربه منها معرفةً والتزاماً وسلوكاً، وقدرته على تحمل المسؤولية هو السبيل لتوليه هذه المكانة وهذا المنصب،كما أن بُعده عنها هو الآخر يبعده عن هذا الموقع.
ولعل الكلمة الجامعة لهذه المعاني وغيرها أيضا هي (الظلم) فمن اتَّصف بأي نوع منه فإنه لا يجوز أن يكون في هذا الموقع، ومن كان على هذه الصفة وتبوأ منصب الحكم فإنه يعد معتدياً مغتصباً للمنصب.
قال تعالى:(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[3].
ومع أن هذه الآية الشريفة ترتبط بالنبوة والإمامة ارتباطاً مباشراً،وتبيّن أن من تلبّس بظلم في أي آن من آنات حياته فإنه لا يليق لهذا المنصب، إلا أنه يمكن لنا الاستفادة منها في المواقع المختلفة التي تحمل أية مسؤولية في الأمة.
وإذا دققنا النظر في الآثار المترتبة على الظلم فإننا سنجده سبباً أساساً في تمزيق الأمة وتفريقها وتقطيع أوصالها، وما الثورات والانتفاضات التي قامت ضد الحاكمين على مرّ التاريخ إلا صرخة في وجه الحاكم الظالم غالباً ومقاومة له، ومن الطبيعي أن يسفر عن التصادم بين الحاكم والمحكوم المزيد من التباعد والتباغض والتمزق والتفرق.
ولسنا هنا في صدد ذكر مثالب الحكام وتعداد المظالم الصادرة عنهم وعن رجالهم قديماً وحديثاً ولكن ما ينبغي الوقوف عليه هو: أن الظلم وما يتبعه من قهروذلّ واستعباد وتعذيب وتنكيل هو من الأسباب الرئيسة في تمزّق الأمة، وعليه فإن الطامحين في وحدة الأمة والعاملين في هذا الحقل تقع عليهم مسؤولية مقاومة الظلم والظالمين بغض النظر عن انتماءاتهم العقدية أو الجغرافية أو غيرهما وموقعهم في السلطة، فقبح الظلم المقرّ من جميع العقلاء لا يخفّف من قبحه أي انتماء، ولا تستر سوءته المكانة والموقع في السلطة.
ولهذا انبرى الصالحون من أبناء هذه الأمة وفي مقدمتهم أهل البيت(عليهم السلام) لتصحيح الاعوجاج الصادر من الحكام، وبذلوا كل غالٍ ونفيسٍ لمنع الظلم ورفعه من واقع الأمة، وبغض النظر عن الإخفاقات والنجاحات في هذا المضمار إلا أنهم، ووفقاً لقيم الدين الحنيف الجامع لهذه الأمة، أدَّوا ما عليهم من مسؤولية تجاه دينهم وأمتهم، وتستمر قافلة المصلحين في مقاومة ما يفتت ويمزق الأمة، وما الدعوات التي تصدر من المصلحين لرفع الظلم والحيف عن الناس إلا طلباً لوحدة الأمة وتماسكها بالعودة إلى الدين الجامع. واتهامهم بتمزيق وحدة الصف وشقّ عصا المسلمين وغيرهامن الأوصاف كالانفصاليين والمخربين ما هو إلا مجانبة للحقيقة والإمعان أكثر فأكثر في ممارسة الظلم، مما يعني المزيد من التشرذم والتفرق.
والصحيح هو: النظر إلى دعوات المصلحين بعين العقل وعرضها على قيم الدين فما وافقها ينبغي العمل به، والالتفات إلى آثار مخالفته. قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[4].
3- منذ أن ودّعت الأمة الإسلامية الخلافة العثمانية في العام 1924م تفرّقت إلى عدد كبير من الوحدات السياسية، وهذه الوحدات ليس لها كيان سياسي واحد سوى منظمة المؤتمر الإسلامي التي أسست في 12 رجب 1389 هـ الموافق 25 سبتمبر1969م، وتضم سبعاً وخمسين دولة إسلامية، وهي شكل من أشكال التعبير عن وحدة العالم الإسلامي.
وهذا الشكل، وإن كان محفوفاً بالهشاشة والضعف في الكثير من القضايا الخلافية في العالم الإسلامي، إلا أن وجوده أمر مطلوب، ولكن يجب أن نعترف أنها لم تتقدم خطوة واحدة في سبيل وحدة الأمة، أو فقل ليس من اهتماماتها، ولكن من المؤكد أن من صلب اهتماماتها منع الانشطار والتشظي بين أبناء الأمة! وعليه ينبغي «إعادة تقويم خبرتها السابقة في مجال الأمن الجماعي والتسوية السلمية للمنازعات بين الدول الأعضاء.
فالاتجاه العام الذي سيطر على موقف المنظمة هو الابتعاد عن النزاعات العربية والأفريقية وتركها للمنظمات الدولية المعنية مثل الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية. ولعل حالة الحرب العراقية الإيرانية تؤكد هذا الاتجاه.والشيء ذاته ينطق -وبدرجة أكثر وضوحاً- على مسألة الاحتلال العراقي لدولة الكويت«[5]. والاحتلال الأمريكي لكل من أفغانستان والعراق وهمامن الدول الأعضاء.
وإذا تجاوزنا هذا الإطار واتجهنا إلى سائر الأطر ذات الطبيعة الجغرافية أو غيرها فهي ليست بأحسن حالاً من هذه المنظمة، مما يفرض على الجميع تقوية هذه الأطرمن خلال العودة إلى القيم الجامعة التي يدين بها أبناء الأمة الإسلامية.
ولعل تصحيح العلاقات فيما بينهم تكون من الأولويات الملحة وخصوصاً في زماننا هذا الذي استبدلت فيه العلاقات الأخوية بالعلاقات الكيدية، بل والتآمر من خلال الاستعانة بالأعداء «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم«.
4- شكّل دخول الناس في الإسلام انتماءً جديداً يتطلب منهم هجران الرواسب في انتماءاتهم السابقة، فالقبيلة والقوم والوطن وغيرها انتماءات مقبولة إذا كانت نقية من أدران الجاهلية وأدرجت في إطار الإسلام، بحيث يكون ولاء الإنسان إلى الدين أولاً وبالذات وليس العكس.
ولمزيد من الاندماج وتأكيداً لحالة الانسجام بين أبناء الإسلام فقد ارتقى بالعلاقة بين أبنائه إلى مستوى الأخوة وهي رباط معنوي يتصل بالواحد الأحد، وهكذا يكون الاعتقاد بالتوحيد له انعكاسات على الواقع الخارجي بين المؤمنين.
قال تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[6].
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِنِ اشْتَكَى شَيْئاً مِنْهُ وَجَدَ أَلَمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ جَسَدِهِ، وَأَرْوَاحُهُمَا مِنْ رُوحٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ لأَشَدُّ اتِّصَالاً بِرُوحِ اللهِ مِنِ اتِّصَالِ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِهَا«[7].
وسئل الإمام الرضا (عليه السلام): مَا حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ؟ فقال (عليه السلام): «فَقَالَ إِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمَوَدَّةَ لَهُ فِي صَدْرِهِ، وَالْمُوَاسَاةَ لَهُ فِي مَالِهِ، وَالنُّصْرَةَ لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَإِنْ كَانَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ غَائِباً أَخَذَ لَهُ بِنَصِيبِهِ، وَإِذَا مَاتَ فَالزِّيَارَةُ إِلَى قَبْرِهِ،وَلا يَظْلِمُهُ، وَلا يَغُشُّهُ، وَلا يَخُونُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَغْتَابُهُ،وَلا يَكْذِبُهُ، وَلا يَقُولُ لَهُ أُفٍّ فَإِذَا قَالَ لَهُ أُفٍّ فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَلايَةٌ، وَإِذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ عَدُوِّي فَقَدْ كَفَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ،وَإِذَا اتَّهَمَهُ انْمَاثَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ«[8].
ومن خلال ذلك اجتمعت القوميات والأعراق والأنساب والأوطان كلها تحت راية التوحيد، وأصبح الجميع في دين الله أخواناً.
والآن هل العلاقة بين أبناء الأمة على هذا الوجه؟
أم أن الأمر عاد كما كان قبل الإسلام؟
والحقيقة المرة هي أن الأمر عاد منذ زمن بعيد حتى قال ابن خلدون:"إن عصبية الجاهلية نسيت في أول الإسلام، ثم عادت كما كانت، في زمن خروج الحسين(عليه السلام) عصبية مضر لبني أمية كما كانت لهم قبل الإسلام"[9].
وقال أحمد أمين: "لم يكن الحكم الأموي حكماً إسلاميًّا يُسوّى فيه بين الناس، ويُكافأ فيه المحسن عربيًّا كان أو مولى، ويعاقب من أجرم عربيًّا كان أم مولى، ولم تكن الخدمة للرعية على السواء، وإنما كان الحكم عربيًّا، والحكام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية، لا النزعة الإسلامية" [10].
وواقعنا المعاصر ليس بعيداً عن هذه العصبيات وتلك الرواسب التي عمل الإسلام على إبعادها عن أبنائه منذ اليوم الأول؛ لذا نحن بحاجة إلى تداخل أبناءالأمة بعضها مع بعض مما يتيح للجميع فرصة التعارف والتآزر والمناصرة والتكافل فيمابينهم. ولكي يتم ذلك ينبغي الاستفادة من الحج والعمرة بعقد المؤتمرات والحوارات واللقاءات فيما بين المسلمين، كما ينبغي تأسيس المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية والأهلية –ولعل الأخيرة هي الأهم- على مستوى الأمة ذات الطابع التشاوري أو العملي بمختلف التوجهات العلمية والعملية.
5- التعدد المذهبي في الأمة الإسلامية، بل وغيرها من الأمم، لا يؤدي بالضرورة إلى التفرّق والتشرذم، إلا إذا دخلت عليه مؤثرات من الخارج تقوم بتوظيفه لأهداف خاصة لا تنسجم مع وحدة الأمة وائتلافها، وهذا يعني أن ما تشهده بعض الساحات الإسلامية أحياناً من تدابر أو تنازع بين أتباع المذاهب الإسلامية ليس الخلاف العلمي هو المسؤول عنه، وإنما هو نتيجة لتدخل بعض الساسة أو المنتفعين في استغلال الخلاف وتوظيفه للاصطفافات الطائفية والنعرات المذهبية. وتشتد الحالة خطورة حين يتحوّل الحكّام إلى رجال طوائف يعملون على نبذ وتحقير الطوائف الأخرى وسلب حقوقها تعالياً عليها وتعصباً ضدها، والنتيجة الطبيعية لمثل هذا السلوك ليس التماسك والاندماج قطعاً وإنما التفكّك والتفرّق والانقسام،ومن المؤكد أن الرابح لن يكون هو بل أعداء الأمة.
وقد عمل المخلصون من أبناء الأمة على نبذ الطائفية وإبعاد الطائفيين عن ساحة التأثير ومنعهم من استغلال الخلاف العلمي إلى مادة لتأجيج الصراع والانقسام، وقد حققوا نتائج هامة على مستوى المذاهب الأربعة (المالكي، الحنفي، الشافعي، الحنبلي) بالرغم من الحوادث المؤسفة والمؤلمة التي حدثت فيما مضى من التاريخ.
والآن تبقى الآمال معقودة على تلك الجهود أيضاً في إكمال مهمتها لتتلاقى المذاهب جميعاً الشيعية منها والسنية صفًّا واحداً للنهوض بهذه الأمة إلى ماكانت عليه في تاريخها المجيد.
وعلينا أن نعي أن سلاح الإقصاء والتهميش والتكفير لن يوصل أحداً إلا إلى الخسران والتفكك والضياع «والعياذ بالله«.
اعداد وتقديم: سيد مرتضى محمدي
القسم العربي : تبيان
الهوامش:
[1] آل عمران/ 103.
[2] الأنفال/ 46.
[3] البقرة/ 124.
[4] الأنفال/ 46.
[5] منظمة المؤتمرالإسلامي: بلورة لمواقف لفظية دونما أثر عملي، بقلم: د. حمدي عبد الرحمن:
[6] الحجرات/ 10.
[7] بحار الأنوار،العلامة المجلسي، ج 58، ص 149.
[8] بحار الأنوار،العلامة المجلسي، ج 58، ص 233.
[9] نقلاً عن كتاب جهاد الإمام السجاد [عليهالسلام]، السيد محمد رضا الجلالي، ص 135.
[10] نقلا عن كتاب جهاد الإمام السجاد [عليه السلام]، السيد محمد رضا الجلالي، ص 137
دور الأمم المتحدة في صيانة حقوق الإنسان
حقوق الإنسان في نظام الجمهوريه الإسلاميه
انتهاک حقوق الإنسان في معسکر أشرف
الملف الأسود للغرب في مجال حقوق الإنسان
رؤية الإمام علي ( عليه السلام ) لحقوق الإنسان
ظهر الفساد
مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق الوضعية الدولية