صمود
لم يكد الفجر يلوح طابعاً اول خطوطه على صفحات الأفق حتى نهضت وفاق من فراش لم يجمعها وإياه النوم فقد قضت ليلتها تعد ساعاتها بألم ، وتطوي دقائقها بالدموع وما ان لمحت خطوط الفجر حتى شعرت به ينتزعها من فراشها ليستنقذها مما هي فيه ، وليدعوها الى ترك اليأس المرير ، ويفتح أمامها أبواب الأمل والرجاء ، في الصلاة والدعاء واتجاه الروح وقربها من الرحمن ، وفعلا فقد اندفعت بلهفة الى تهيئة مقدمات الصلاة ، وكأنها تستعد لموعد يقربها ممن تحب ، ويفتح أمامها ابواب الرجاء ، وسرعان ما اندمجت مع صلاتها تاركة ورائها آلام الحياة ومآسيها ، منصرفة الى خالقها الذي تتجه اليه ، وانتهت من صلاتها فعادت الى واقعها المرير ، وما هي عليه من حيرة قاسية تقف بها على مفترق طريقين ، طريق السعادة المادية في الدنيا الفانية ، وطريق السعادة الروحية في الصمود على الايمان والذي يصل بها الى السعادة الحقيقية في الحياة الباقية بعد أن يحقق لها في الدنيا ايضاً ، مفهوم السعادة الواقعية ، الناتجة عن السير الصالح في خط الإسلام ، وتعاليمه ويبتعد بها عن المشاكل والويلات ، التي يجرها الانحراف عن هدى الإسلام ، طريق يفتح أمامها أبواب الدنيا ببهرجتها الخلابة ، واساليبها الخادعة ، ونعيمها الموهوم ، وطريق يأخذ بيدها الى مطلع الهداية ، ويثبت أقدامها على جادة الصواب ، ويشدها الى إسلامها وما فيه ، من مثل ومفاهيم ، وقيم ، وأخلاق ، فيشعرها بلذة الانتصار ، ويكللها بأكاليل الصمود ، والثبات ، وهي بطبيعتها فتاة مسلمة تأبى أن تختار الطريق الدنيوي الخادع ، ولكنها تخشى أن تضعف حيال التيارات ، او تنهار امام الوعد والوعيد ، وهذا ما جعلها تقضي ليلتها ساهرة تتطلع الى الفجر بصبر نافذ ، ولم تكد تنتهي من صلاتها حتى رفعت يديها نحو السماء قائلة ، يا رب انك تعلم اني فتاة يتيمة فقدت ابوي وأنا بعد صغيرة ، وذهب أخي الى حيث يستكمل دراسته في الخارج ، فخدعته أوروبا بحضارتها المزعومة ، فنساني أو تناساني ، وانجرف وراء لهوه ومجونه ولكنك وبرحمتك يا رب ، عوضتني بنور الإسلام الذي أشرق على جنبات روحي فأضاءها ، ونفذ الى العميق من مشاعري واحاسيسي فوهبها الأمن والرضاء ، واستقر في صميم فكري فوجهه الوجهة الصالحة في الحياة ، وقد مكنتني يا مولاي ، بما وهبته لي من سلاح الإيمان ، وقوة العزيمة ان ارتفع بنفسي عن كل وهدة ، واحتفظ بفكري وقلبي نقيين طاهرين ، لم تدنسهما الحضارة الكاذبة ، ولم تدنسهما التمدن الخادع ، بأساليبه البراقة ، ولم تضللهما الفكر الوافدة ، بسمومها ، وهكذا مكنتني يا رب ، أن أشق طريقي في الحياة قانعة راضية ، وكنت أشعر يا إلهي بعد كل انتصار أحرزه في مضمار هداية البنات المخدوعات أشعر بسعادة تنسيني حرماني من حنان الأبوة ، والأمومة ، وحماية الأخوة كنت اعوض بتلك السعادة عما الاقيه ، من قساوة عمي الذي تعهدني ، هذا العم الذي يستهين بجميع ما اؤمن به من مثل ، وقيم ، ومفاهيم ، ولكن ؟
هذا الوافد الغريب هذا الشاب المائع الماجن ، الذي سحر عمي ببريق أمواله ، واستهواه بابواق سياراته العديدة ، هذا الذي جعل حياتي جحيما منذ أطل على هذا البيت ، ولاحت لعين عمي عماراته الشاهقة المرتفعة في سماء بغداد ؟
هذا الذي تجرأ على طلب يدي وهو يجهل اني لا انظر اليه من وراء عماراته وسياراته ، بل انني انظر اليه بمنظار الواقع ، فانفر منه بمجونه ، وميوعته واخشاه لتحلله وانحرافه ، ولكن عمي ، هذا الرجل المغرور ، لم يزل يتعقبني بفتاه هذا بالوعد تارة ، وفي الوعيد اخرى ، انه يصور لي الفردوس الأرضي غافلاً عن فردوسك يا رب ، انه يبني لي الصروح الشاهقة من الاماني والآمال جاهلاً ان آمالي واماني منوطة بك وحدك ، أنا اخشى ان افقد فردوسك اذا حصلت على هذا الفردوس المزعوم ، انا اخشى ان انحرف عن تعاليم الإسلام إذا نزلت امام رغبة عمي وقرنت حياتي مع هذا الشباب ، ولكن الضغط شديد ، وأنا وحيدة فريدة أقاوم ، واصارع ، بدون ناصر أو معين ، إلاك يا رب حتى اخي الوحيد ، انه قد انحرف مع التيار الساحق ، ولا ريب ولا أدري ؟
فلعله لو كان حاضراً لآزر عمي وساعده على ما يريد ؟
فأنا لا أعرف شيئا عن اخلاقه وما انتهى اليه ، فقد تركني فتية صغيرة ، ولم يعد لحد الآن ، ناسيا أن لديه اختا هي احوج ما تكون اليه ، والى رعايته وعنايته لقد نساني أو تناساني بالمرة ، ولكنني لم انس أخي ، لقد كنت أدعو له بالهداية على طول الخط ، فارحمني يار بي برحمتك ، ولا تتركني انجرف الى الهاوية راضية أو مرغومة بعد قليل سوف يستأنف عمى عملية التعذيب ، ويعاود كلمات التهديد والوعيد ، انك تعلم يا إلهي انه حبسني في غرفتي هذه منذ يومين ، محاولا اخضاعي لما يريد ؟
ولهذا فإني خائفة يا رباه ولكنني سأحاول الصمود ، سوف اقف امام كل شيء ، حتى تصلني رحمتك ورضوانك ؟
وكأن هذه المناجاة أسبغت على وفاق بعض الشعور بالراحة النفسية بعد ان ناجت ربها القادر على كل شيء واوكلت اليه زمام أمرها في الحياة ، وهل هناك راحة نفسية أعمق من راحة الإنسان السائر في طريق الله ؟
وهل هناك اطمئنان اعمق من اطمئنان الذي يسلم أمره الى الله ؟
وهل هناك شكاية اكثر تأثيراً من الشكاية الى الله ؟
وهذا ما جعل وفاق تشعر بنعاس هو أشبه ما يكون بالاستسلام ، وفعلا فقد أسلمت نفسها للنوم بعد ليلة طويلة قضتها ساهرة ، ولكن اغفاءتها تلك لم تستمر
سوى فترة قليلة فقد استفاقت على صوت عمها وهو يقرع النافذة صائحاً بصوته الحاد ، ألا تزالين نائمة يا عجوز القرون الوسطى ، فنهضت مذعورة واجابت بانكسار ، نعم يا عماه فقد اخذتني سنة من النوم ، قال العم وقد حاول ان يلطف صوته : أراك منبسطة الوجه في صباحك هذا يا وفاق ؟ لعلك قد عدت الى الحقيقة وتركت وراءك عالم الخيال ؟.
فحاولت وفاق ان تتبسم ، ثم قالت لقد كنت اعيش دائماً في عالم الحقيقة يا عماه ، قال العم ، ولكنها حقائق القرون الماضية ، وليست حقائق القرن العشرين ، والآن . فإذا كنت قد عدلت عن فكرتك العفنة فتعالي لأفتح لك الباب بيدي هذه التي سوف تفتح لك أبواب السعادة في الحياة ، قالت أنا لا أريد ان تفتح لي ابواب النعيم الدنيوي لتسد أمامي أبواب الرحمة والغفران ، أنا لا ابيع آخرتي بدنياي يا عماه فارحمني ودعني وما أريد ، فزمجر العم قائلا أنا لن أدع الفرصة تفلت من يدي بسهولة ، أنا لا أريد أن تبقي في صومعتك هذه متلفعة بالأغطية السوداء منطوية على نفسك مع الكتب والأوراق ، انك تجلبين عليّ العار والشنار ، فتهدج صوت وفاق وهي تقول انا هكذا كنت وهكذا سوف أبقى يا عماه قال إذن فاخرجي من بيتي فلم أعد اطيق بقاءك وانت على ما عليه من أسلوب منحرف في الحياة ، فرفعت وفاق وجهها نحو السماء وكأنها تطلب المعونة من الله ثم قالت بقنوط هل تعني ما تقول يا عماه ؟
قال نعم
يكفيني ما سببت لي من مشاكل وما كدرت عليّ صفو حياتي بأفكارك ومثلك ، انك مخيرة بين ان ترضي بهذا الشاب زوجاً او ان تخرجي من بيتي على أن لا تعودي إليه ، لأرى مدى ما تنفعك مفاهيمك ، ومدى ما ينصرك اسلامك الذي تدعين قرري مصيرك يا وفاق. فأطرقت وفاق برهة ثم قالت لقد قررت . قال اترضين بهذا الشاب اذن ؟
فقالت وفاق بصوت رصين . لا ، انا لن ابيع ديني بدنياي ، فثار العم واندفع نحو الباب يفتحه ويقول اذن تعالى واخرجي فلم يبق لك مكان في هذا الدار ، أما واني لآسف على ما بذلته في سبيلك من جهود ، اذهبي وفتشي عن اسلامك او عن اخيك الذي اهملك وتركك بعد ان عرفت كيف يعيش ، اخرجي بسرعة ، فلم أعد اطيق بقاءك في البيت وكان العم يتكلم ووفاق تلبس ابرادها للخروج ، ولم تكن تملك من مال الدنيا شيئا عدى حلية ذهبية فحملتها في حقيبته ثم انثنت الى مكتبتها الصغيرة فاختارت منها المصحف الشريف ، وبعض الكتب الاسلامية ، ثم توجهت الى عمها قائلة ألا تزال تصر على رأيك يا عماه ؟
ألا تندم على ما أنت مقدم عليه ؟
فأزبد العم قائلا أبدا أنا لن اضمك في بيتي بعد الآن ، فلم يعد هناك من أمل ، فاخرجي وفتشي عن إسلامك ومفاهيمك ونادي اليك أخاك الذي أهمل وجودك وتناساك ، فرفعت وفاق طرفها نحو السماء ثم قالت وهي تتقدم نحو الباب نعم اني ذاهبة يا عماه ، وإني لسعيدة لانتصاري هذا ، فقد اكمل الله نعمته عليّ . والهمني القوة في العقيدة ، والثبات على الإسلام ، فوداعا يا عماه ، وكانت وفاق تنتظر ان يرجع عمها عن قراره في آخر لحظة لكنه شيعها بكلمات السباب حتى توارت في منعطفات الشارع ، وهناك ، شعرت وفاق بضيعة ما فوقها ضيعة ، انى عساها ان تذهب ؟
والى أية ناحية تتجه ؟
وقد غدت وحيدة في هذا العالم الواسع ، غريبة عن مجتمعها الذي يحيطها ، المجتمع الذي تستنكر عليه أعماله ويستنكر عليها أعمالها ، وتنقم عليه لفاسده ، وينقم عليها لصلاحها ، فرانت عليها سحابة يأس مريرة اسلمتها لحيرة قاسية ، وفيما هي غارقة في لجة الإنفعالات طرقت سمعها نغمة محببة وهي ترتل آيات القرآن الكريم ، وانتبهت على المقرىء وهو يتلو هذه الآية ( أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) (1) ، فشعرت وكأنها هي المخاطبة في هذه الآية وتجدد في قلبها الأمل وهي تستمع الى وعد الله بالنصر فاستعادت في لحظة بإيحاء من هذه الآية المباركة جميع ما لديها من عزيمة ، وكل ما تملك من ثبات ، وفكرت الى اين تتجه ! ولكن بروح مشرقة ونفس مطمئنة ، فخطرت لها صديقتها وداد : ماذا عليها لو ذهبت الى هناك وطلبت منها
ان تكلف اخاها بالبحث عن أخيها الغائب ؟
فقد كان صديقه قبل ان يسافر ولعلها ان وجدت أخاها او عرفت بمكانه سوف تتمكن ان تكتب اليه وتطلب منه ان يعود بعد ان تحدثه بما هي عليه ، وفعلا فقد اتجهت الى بيت صديقتها وداد وخيوط الأمل تداعب اوتار قلبها ووصلت الى هناك : وما طرقت الباب حتى فتحته لها وداد ولم تكد تراها حتى احتضنتها بلهفة وشوق بالغين ، وراحت تقبلها وهي تردد قائلة تهاني لك على هذه البشرى السارة يا وفاق علم الله لقد استطرت لها فرحاً من اجلك يا اختاه . فأنكرت وفاق على صديقتها هذه التهاني والتبريكات وتساءلت في حيرة عن أي شيء تهنيني يا وداد فانبرت وداد تقول اولم تصلك رسالة من أخيك يا وفاق أولم تعلمي أنه في طريقه الينا وانه سوف يصل اليوم او غدا وكانت هذه البشرى السارة اكثر مما تتحمله وفاق فتهاوت بين يدي صديقتها وهي تردد : احقا ما تقولين ؟ فأخذت وداد بيدها وقادتها الى غرفتها حيث جلستا هناك وما ان استعادت وفاق رشدها من أثر المفاجأة حتى خطر لها أمر هالها انها قد غفلت عنه وهو أن أخاها قد إنجرف مع التيار ، وتلونت نظرته للحياة بالمنظار الغربي ، اذن فهو صورة ثانية عن عمها الذي نبذها قبل ساعة . فالتفتت نحو صديقتها تقول بجد رصين وكيف علمت ذلك يا وداد وهل عرفت أي شيء قد دعاه الى العودة ؟ فقرأت وداد ما دار في خلد وفاق فابتسمت لها مشجعة ثم قالت لقد كتب الى اخي يقول انه لم يعد يستطيع البعد عنك بعد الآن وبعد أن عاش حياة الحضارة المزعومة ، واطلع على مآسيها وفواجعها ، وتعرف على أمراضها وسمومها ، وانه سوف يعود ليحميك من شر الحضارة الخادعة ، والتمدن المزعوم ، هاك ورسالته فاقرأيها ليطمئن قلبك يا وفاق وكانت الفرحة قد استولت على وفاق فلم تعد تتمكن من القراءة فها هو الله تبارك وتعالى يستجيب لها وينصرها في احرج لحظة ، وها هو اسلامها يشد ازرها كما كانت ترجو وتأمل وها هي مثلها ومفاهيمها تنتصر وتعيد اليها الأخ الغائب بعد ان كفر بأفكار أوروبا وحضارتها الموهومة ، فطلبت من وداد ان تقرأ لها الرسالة فقرأت لها وداد رسالة الأخ وقد جاء فيها : لقد انخدعت يا صديقي فترة من الزمان ، ظننت فيها ان هذه الحياة المائعة هي الطريق الى السعادة وقد شغلتني دنيا الغرب ببهرجها ، وصرفتني عن واجبي نحو نفسي ونحو اختي التي تركتها صبية صغيرة ، وانا اقر لك بذلك يا صديق الطفولة والفتوة ، ولكن لا عجب فقد نسيت نفسي أيضا واضعتها على مذبح الشهوات ، وكان ان أخذت الحقائق تنكشف لي واحدة بعد اخرى فإذا بهذه العمارات الناطحة للسحاب الساهرة للصبح على قرع الكؤوس وضرب الدفوف اذا بها تضم افضع المآسي واهول المصائب ، واذا بهذه النوادي الزاخرة باشكال اللهو والمجون ما هي إلا أحابيل تضليل للشباب المخدوع ، وعملية وأد لمستقبله وكيانه في الحياة ، وإذا بهذا الجيل من النساء
المزهوات بالمساواة مع الرجل إذا بهن لسن سوى سلعة رخيصة جدا بين أيدي الرجال يتحكم فيهن الرجل كما يريد ويبرزهن بالشكل الذي يهوى ، وإذا بهذا الصخب في الحياة العامة ، وهذا الركض وراء كل ما يسمى حضارة ، وكل ما يسمى تمدن ، إذا به يخفي هما دفينا ، ومشاكل كبار ، يعج بها المجتمع الغربي وكل من سار على شاكلته ولهذا فقد انتبهت الى نفسي وعدت بفكري الى اختي التي لا ريب انها الآن قد بلغت الروعة في ريعان الشباب والفتوة فخشيت عليها مصير هذه الفتيات ، وخشيت عليها أن تنحرف مع التيار الذي أخذ يغزو البلدان الإسلامية تحت اسماء مستعارة من التمدن والتقدم ، فعزمت أن أعود الى وطني لأحمي اختي ، واصونها بمهجتي عن الإنحراف ، نعم أنا أريد أن أعود ، لآخذ بيدها نحو جادة الصواب ، ولنذهب معا نلتمس السعادة الواقعية في تعاليم الإسلام.
المصدر: صراع من واقع الحياة- بنت الهدي
(1) سورة البقرة الآية 114.
طــــــه حســـــين عميد الأدب العربي
براعة اللغة العربية
ألمانيا تتمسك بنفرتيتي
طيبة تتحول إلى متحف مفتوح
مقابر منحوتة في الصخر
عودة توت عنخ آمون من نيويورك
العثور على تمثال بطليموس