الزهد ، والمواساة
ومن فلسفة الزهد مواساة المحرومين ومشاركتهم في حياتهم . فإن هؤلاء حينما يقيسون أنفسهم بأمثالهم من بني الإنسان وهم أغنياء يحسون في قرارة نفوسهم بالفقر والحرمان من ناحية ، وتأخر عن أمثالهم من الناس من ناحية أخرى . ولا يستطيع الإنسان بطبعه أن يرى غيره ممن لا فضل له عليه يأكل ويتمتع ويفرح ويمرح ، ثم يقف هو جائعاً حزيناً كئيباً وقفة المتفرّج .
وهنا يحس المتدين بمسؤولية ملقاة على عاتقه تثقل كاهله ، أمام هذا الواقع السيئ ، فهو يشعر في قرارة نفسه الصافية بنداء الضمير والوجدان الإنساني الحي الذي عبّر عنه الإمام ( عليه السلام ) فقال: ( أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ) فيشعر بمسؤوليته تجاه هذا الواقع السيئ وفاءً بما أخذ الله عليه وما عاهد عليه الله إذ آمن بالله وكتبه ورسله .
وإذ لم يستطع ذلك بيد أو لسان فلا أقل من الإيثار ومقاسمة ما عنده لهؤلاء الفقراء المعوزين ، سعياً في سعادتهم وترسم واقعهم المقيت كما فعل ذلك ثلاثة من أئمتنا: الحسن والحسين وعلي بن الحسين ( عليهم السلام ) .
وإذا لم يستطع ذلك أيضاً لكثرة الضحايا في هذا الميدان فلا أقل من أن يضمّد جراح هؤلاء الضحايا - ضحايا قسوة المجتمع الظالم - ببلسم المواساة ومشاركتهم في آلامهم وهمومهم ، والتساوي معهم في فقرهم .
وإن لمواساة الآخرين في أحزانهم أهمية عظمى ، خصوصاً في حياة أئمة الأمة ، أولئك الذين تنظر إليهم الأمة لتقتدي بأفعالهم وأقوالهم .
ولذلك نرى أن الإمام ( عليه السلام ) قد زهد في حياته في الخلافة أكثر من أي وقت مضى ، وكان يقول في ذلك:
( إن الله فرض على أئمة العدل: أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره ) .
ويقول ( عليه السلام ) في كتابه إلى عامله على البصرة ( عثمان بن حنيف الأنصاري ):
( أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون ( أسوة ) لهم في جشوبة العيش . . ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز .
ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالبشع! أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟! أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة***وحولك أكباد تحن إلى القدّ نعم ، كان الإمام ( عليه السلام ) هو هكذا ، ولكنه كان إذا سمع برجل يضيق على نفسه كان ينكر عليه ذلك .
فقد شكا إليه العلاء بن زياد الحارثي الهمداني أخاه عاصم بن زياد ، فقال له وماله؟ قال: لبس العباءة ، وتخلى عن الدنيا! قال: عليّ به . فلما جاء قال له:
( يا عُديّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى أحل الله لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك )!
فقال: يا أمير المؤمنين! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟!
فقال ( عليه السلام ): ( ويحك! إني لست كأنت ، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس . . ) .
وفي ( أصول الكافي ) عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال: ( إن الله جعلني إماماً لخلقه ، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس ، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يُطغي الغني غناه ) .
وقال رجل لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ): أصلحك الله! ذكرت أن علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن والقميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ، ونرى عليك اللباس الجديد؟!
فقال له: ( إن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر عليه ، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به ) .
إذن فهذا الزهد الناتج عن فلفة المواساة - كما ترى بوضوح - لا يمت إلى الرهبنة بشيء ، وليس - كما يقولون - فراراً من المسؤولية وإعراضاً عنها ، بل هو المواساة لآلام الفقراء والضعفاء .
عظمة النفس و الغيرة في نهج البلاغة
الفصاحة والجمال في نهج البلاغة
بلاغة الإمام علي عليه السلام
عقله الجبار ينظم عاطفته
ماهي التقوى؟
الفضيلة مصدر القيمة الاجتماعية
التغيير الفردي والاجتماعي في نهج البلاغة